أبعاد إستراتيجية (7)

 

شمولية القوانين وشفافية اللوائح.. رؤية مشتركة للمستقبل

د. هلال الشيذاني

@abualbadr72

كالبوصلة؛ حين تمثل رؤية الدولة أو المؤسسة لمستقبلها الإبرة الدالة على الشمال، فإن القوانين تمثل القاعدة العامة التي تقوم عليها الرؤية المستقبلية وتمثل اللوائح المؤشرات التي تدل على الاتجاهات الأربعة والزوايا بينها. فإذا كانت القواعد القانونية راسخة ومكتملة، وكانت مؤشرات الاتجاهات واضحة ودقيقة، والمجال الذي وُضعت فيه البوصلة خاليا من التيارات المغناطيسية المُربكة، فإن البوصلة ستدل على الشمال الحقيقي الصحيح وحاملها سيسير في خطوات ثابتة نحو رؤيته المستقبلية. لكنه إذا ما اختلت ركيزة من هذه الركائز، فإن القراءات تكون خطأً والاتجاهات غير دقيقة، والخطوات لا شك ستكون مرتبكة.

وفي علم الإستراتيجيات، تقوم المؤسسات على ثلاث ركائز أساسية. الأولى هي: المَهمَّة (وتُترجم عادة إلى الرسالة)، وهي الركيزة الأساسية للوجود، وتحدد مبررات تأسيس المؤسسة ومجالات عملها. والركيزة الثانية هي الرؤية، وهي نقطة المستقبل التي تطمح المؤسسات أو الدول للوصول إليها. والركيزة الثالثة هي القِيم، وتعني المبادئ التي تنظم علاقة المؤسسة بغيرها، وعلاقة أصحاب العلاقة فيها ببعضهم البعض وبغيرهم، والعلاقة بين المؤسسة والمنتسبين إليها. يقوم على هذه الركائز الثلاث الأهداف والإستراتيجيات والتنفيذ. غير أن الركائز الثلاث وما يُبنى عليها، إن لم توجَد في بيئة تتسم بشمولية القوانين وشفافية اللوائح، فإنها عادة ما تنتهي إلى الفشل أو ضعف التنفيذ.

تَهَبُ شمولية القوانين البيئات القائمة عليها سِمَتَينِ أساسيتين. الأولى: أن القانون الواحد يكون شاملا لكل مجالات المنظومة المرتبطة به، وتكون القوانين مجتمعة عاضِدةً بعضها البعض لتسد الفجوات التنظيمية والقانونية التي تظهر بين أطر هذا القانون وذاك. أما الثانية، فهي أنه من المتوقع أن تكون اللوائح المبنية على القوانين المتعاضدة والمتكاملة، دقيقة وشاملة لا تترك مجالات للتكهنات والاجتهادات بتعاطيها مع مختلف الجوانب التنفيذية المرتبطة بجوانب كل قانون.

وتمنح شفافية اللوائح المؤسسات ثقة المتعاملين. فكلما كانت شمولية القوانين أكبر، وشفافية لوائحه أكبر، كانت مجالات الاستثناء أقل، وحدود التصرف خلافا للقانون واللوائح منخفضة حتى تكاد تنعدم. ولهذه الشفافية بعدٌ إستراتيجي كبير، فهي تُظهِرُ مواطن الخلل، وتبيّن مواطن الضعف، وتقود إلى تحسين الإجراءات، وبالتالي يجد المتعامل مع المؤسسة قاعدة للثقة فيها. وفي الوقت ذاته، تجعل الموظف والمراجع على السواء مطَّلِعَينِ على القواعد المنظمة للعلاقة بينهما، ويقلل بالتالي الضغوط الحاصلة على الموظف، وينشر ثقافة العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع.

وفي مثل هذه المؤسسات أو الدول، يعرف المواطن حقوقه وحدوده، ويعرف المسؤول واجباته وحقوقه، وتعرف المؤسسات مجالات عملها وصلاحيات القائمين عليها، وتتبيّن فيها أطر المحاسبية (Accountability) والمسؤولية (Responsibility) والسلطة (Authority) لكل الأطراف مما يجعل العمل المؤسسي مبنيًّا، ليس على اجتهادات وإنما على تنظيمات إدارية واضحة، لا مجال للاجتهاد فيها إلا للحالات المستجِدَّة، والتي من المُتوقّع أن توجِد لها المؤسسات تشريعات وإجراءات تتناسب معها، في مراحل المراجعات والتقييم والتقويم المستمرة.

وللمراجعات والتقييم والتقويم أهمية كبيرة في مواكبة كل قانون ونظام ولائحة للمتغيرات، وعادة ما تسعى المؤسسات إلى تحديث لوائحها والدول إلى تعديل أنظمتها بما يتوافق مع المتغيرات، دون التفريط في المرتكزات والقواعد الوطنية. ومن المهم هنا أن تكون المراجعات وعمليات التقييم والتقويم، ومن أجل أن تحقق استقرارا مؤسسيا، مجدولة بجدول زمني محدد، وعلى الأغلب يكون ما بين ثلاث إلى خمس سنوات، حتى يُمنح القانون المساحة الكافية للتطبيق والتعامل مع الأوضاع التي وُضع من أجلها، وحتى يحقق نوعًا من الاستقرار في التنظيمات، وهو مُتطلب عام للمتعاملين مع القوانين والتشريعات حتى يجدوا مساحة من الحركة والاستقرار في ذات الوقت. تعني الحركة وجود مساحة كافية للتحرك بين بنود القانون والتعامل معها، ويعني الاستقرار، عدم التخوَّف من تغيّر القانون بصورة سريعة ومفاجئة. إن التغيّر السريع أو التباطؤ الشديد في مراجعة القوانين، كلاهما يقودان إلى تحديات التطبيق، ومشكلات التطوير.

تُسهم المراجعات والتقييم والتقويم في إعادة ترتيب الصلاحيات والمسؤوليات والسلطات، وهنا تبرز مدرستان فكريتان متضادتان. تتوجه المدرسة الفكرية الأولى إلى ردم كل جوانب الاستثناء بما لا يدع مجالا لمراعاة الحالات الاستثنائية الحقيقية، وهو أمر مُشكل نوعًا ما. وفي مقابل ذلك تأتي المدرسة الفكرية المخالفة، والتي تذيَّل كل مادة أو باب من أبواب القانون أو اللائحة بما يفيد أن لرئيس الوحدة الحق في الاستثناء من تلك نص تلك المادة أو أحكام ذلك القانون أو بنود تلك اللائحة، وهذا يوجِد مشكلة أكثر تعقيدًا، إذ نعلم جميعا أن رؤساء العديد من الوحدات لا يجدون الوقت الكافي للاطلاع على تفاصيل كل حالة، وبالتالي يوافقون على الاستثناء بناء على توصيات المعنيين في المجال، وهو ما يجعل الحقيقة المرة واضحة أن رئيس الوحدة لا يستثني لقناعة عنده، وإنما لأن من يجلسون على كرسي التنفيذ يرفعون إليه توصية الاستثناء، دون معايير واضحة أو مبررات معنية، في أغلب الأحيان. ولهذا، فإن المدرسة الفكرية الأولى أكثر سلامة وإن كانت كما يقال "خالية من روح القانون".

ولأجل الخروج من مشكلة الاستثناءات الكثيرة التي تهشم عمود القانون الفِقري وتحطّم أسسه، فإن شمولية القوانين وشفافية اللوائح والمراجعات المجدولة، هي المَخرَج الصحيح والبعد الإستراتيجي الأبرز في جعل القوانين واللوائح نابضة بروح القانون، وفي الوقت ذاته تمتلك أسس استقلالها وشموليتها وحيادها لتحقيق العدالة الاجتماعية لأن القوانين المتكاملة، واللوائح الشفافة تُبنى عليها إجراءات واضحة وحقوق معلومة وواجبات محددة، وبالتالي تتحقق العدالة الاجتماعية العامة ومعها يتحقق التوازن الاجتماعي الصحيح للوصول إلى منظومة خالية من النقد السلبي، مبنية على الوطنية الصادقة، وتسير ضمن خارطة طريق مستقبلية واضحة، تحافظ على القيم وتحقق الرؤية.

تعليق عبر الفيس بوك