يا مُتخذي القرار.. كُونوا شباباً

د. سَيْف المعمري

يقول آينشتاين: لابد أن تتعلَّم كيف تكون شابًّا، وتعلُّم ذلك ليس سهلا.. وأنا أقول هنا لابد أنْ يتعلم مُتخذو القرار كيف يكونوا شباباً، أي أنْ يتعلَّموا كيف يفهموا ما يُفكِّر فيه الشباب، وما يحتاجونه، وما يحلمون به، قبل أنْ يحكموا عليهم من منظور كبار ترسَّخت لديهم قناعات لم تعُد مقبولة اليوم، هذه القناعات تؤثر كثيرا في نظرتهم للتنمية والتشريع والإدارة والسياسات التي تتعلق بالشباب وهم الفئة الغالبة بين مجموع السكان، نحن أمام مسارين حتى نَنْجَح في تجديد حيوية القرار بعقول شابة تمنح الوطن استثمار كثير من الفرص قبل ضياعها؛ إما وضع الشباب في أماكن اتخاذ القرار أو أن يمتلك مُتخذو القرار الحاليون القدرةَ على أن يكونوا شبابا حين يتخذوا القرارات المختلفة. قد يقول قائل: من هؤلاء؟ ما هذا الذي يجري؟ وكيف يمكن أن يُطْرَح مثل هذا الحديث؟ نحن أكثر حكمة من هؤلاء الشباب المستعجلين الذين يريدون في عَجَلة ما لا يُمكن، ويريدون أشياء ليست بالسهولة التي يتوقعونها، يريدون تغييرا في نمط البيروقراطية، وتغييرا في نمط التعلم، وتغييرا في نمط عمل المجالس البرلمانية، يريدون تغييرا في قوانين النشر والإعلام، يريدون تغييرا في قوانين الاستثمار، يريدون رقابة أكثر على المؤسسات، يريدون عقلانية في المناقصات الحكومية، يريدون رُشدا في التعامل مع المال العام من قبل المؤسسات، يريدون حكومة فاعلة لها أهداف واضحة يتم تقييمها، يريدون شبابا أكثر في أماكن اتخاذ القرار، يريدون فرصا مُتكافئة، يريدون تعمينًا أكثر في مُختلف القطاعات، يريدون احتكارًا أقل، يريدون ويريدون... ألا يوجد لديهم غير هذه المطالب المتواصلة التي تصعُب على بلدهم في هذا الوقت، وإلى كثير من التضحيات على مُختلف الصُّعد، ولكن نسوا أن ما يراه الشباب غير ما يراه الكبار.

يودُّ الشباب أن يروا حيوية تجري في الأوردة الحكومية، فإن لم توجد هذه الحيوية فلابد من ضخِّها بسرعة حتى لا تضيِّع أحلامهم التي لا يريدون أن يرحلوها إلى عُقود أخرى من عمرهم، وهذا الذي لا يزال لا يتفهمه كثير من مُتخذي القرار لأنهم عجزوا عن أن يكونوا شبابا، أو عجزوا عن أن يستعيدوا أنفسهم حين كانوا شبابا مثل هؤلاء الشباب اليوم الذين يترقبون فيه أن يروا ما يحلمون به واقعا يعيشونه، ربما كانوا أقل صَبْرًا على واقعهم من صبر الشباب حاليا، والشواهد كثيرة على الذين خرج منهم طلباً للتعليم أو العمل دون أن يكترث للأوضاع التي يمرُّ بها بلده، وحين حدث التغيير تسلم كثير منهم مراكز اتخاذ القرار، وكان الكل يردد بلغة واحدة يجب أن تكون البلد شابة، ولو يعودون بذاكرتهم قليلا للوراء سيدركون أنهم كانوا يفكرون كشباب، ويتصرفون كشباب، ويدعمون السياسات التي تقترب من فكر الشباب، فلماذا تركوا الشباب اليوم وراءهم؟ ولماذا يُقلِّل البعض منهم ومن أحلامهم وطموحاتهم واقتراحاتهم وقلقهم؟

لو نَجَح مُتخذو القرار في أنْ يستعيدوا روحهم الشابة، سيحدث تغييرٌ كبير في واقع الشباب؛ وبالتالي التنمية في البلد؛ فمشاركة الشباب في تقاسم المسؤوليات والقرارات والنتائج يرفع من معنوياتهم، ويجعلوهم يغيرون المعتقدات التي يشعرون بها من مجرد أعضاء مستهلكين لموارد الوطن؛ سواء كانوا طلابًا أو خريجين يطلبون وظائف وعملا، أو من مجرد أفراد يثيرون إشكاليات ويتطلبون المراقبة والمتابعة من قبل الجهات المعنية إلى الشعور بأنهم مورد بشري منتج، وصمام أمان لبلدهم، لأنهم يحملون المعرفة والدافعية والإخلاص، ألا يعد الوصول إلى تغيير هذه المعتقدات خطوة جدًّا مهمة في سبيل التمكين الحقيقي للشباب، وزرع الثقة فيهم بدلا من النظر إليهم على أنهم غير ناضجين تنقصهم الخبرة والتجربة، فلماذا إذن خلق الذين يملكون النضج والخبرة للشباب هذه المطبات والإشكالياات؟ وإذا كانوا أكثر رشدا منهم في فهم الواقع، فلماذا لم يجعلوه ممكنا جاذبا، وملائما، وممكنا للشباب يتلاءم مع سقف طموحاتهم؟

لقد أشعرتني مداخلة لأحد متخذي القرار في إحدى المجموعات الحوارية، الأسبوع الماضي، بحجم المسافة التي تفصل بعض مُتخذي القرار والروح الشابة التي لابد أن يعود إليها لكي يتخذ قرارات يستفيد منها الشباب؛ فمن وجهة نظره لا يمثل وجود أكثر من أربعين ألف خريج خارج دائرة العمل أية إشكالية، لذا يجب وضع الموضوع في حجمه الطبيعي، وعدم تضخيم الموضوع إلا حين يصعد الرقم إلى ثمانين ألف فما وفق، وجود شباب في عمر الإنتاج كلف تعليمهم الدولة عشرات الملايين لا يمثل إشكالية، ربما لأنَّ العقلية غير الشابة لم تفهم ما يدور في عقل شاب تخرَّج هذا العام بعد أربعة أعوام من النضال الدراسي، تخرج وهو يحمل دافعية للعمل وأحلاما يريد تحقيق أولها بالعمل ومن ثم يزحف لتحقيق البقية، وهو ما يشعر به بقية الشباب، فلِمَ لا نساعدهم على جَمْع أحلامهم معا ونساعدهم على تحققيقها من أجل أن يتحقق حلم البلد بمستقبل أفضل، علينا أن نتفهَّم أنَّ الشباب ما زالوا يمتلكون القدرة على الحلم، في وقتٍ فَقَد فيه الكبار هذه القدرة لأنهم تمكنوا من تحقيق معظم أحلامهم في حياة أفضل، والبلدان تريد من الشباب أولا أحلامهم.. فما قيمة شباب لا يحلمون!!

يُعنون ميخائيل نعيمة أحد مقالته العميقة بـ"الشباب ثروة وثورة"، وما أجمله من جمع بين خصلتين من أهم الخصال التي يحملها الشباب، فالثروة لها حق الصيانة والمحافظة والحرص عليها، أما الثورة فتتطلب التوظيف الأمثل لها حتى ينتج عنها ما لا ينتج في باقي مراحل عُمر الإنسان، لذا يُؤكِّد لنا نعيمة في هذا المقال أن "الشباب ليس في حاجة إلى مَنْ يُوجهه؛ فالقوى الهائلة التي يزخر بها كيانه هي الكفيلة بتوجيهه في السبيل المعدَّة له، وإنما حاجة الشباب إلى من يحميه من موجِّهيه الذين يُحاولون أن يكمِّموا فاه، ويكبِّلوا يديه ورجليه، ويسكبوا الماء البارد على الحماسة المتأجِّجة في صدره، ويزرعوا الذعر والخنوع في فكره وقلبه.. ولا ينفكون يقيمون السدود والحواجز في وَجْه تفتح الشباب وانطلاقه، وهم إذ يفعلون ذلك لا يدركون إلى أيِّ حدٍّ يُجرمون بحق أنفسهم وحق الشباب".

إذن، إن لم يكن البعض مقتنعا بأن الشباب ثروة لا يجب أن تُهدر، فعليه أن لا يصب الماء البارد على حماستهم؛ لأنَّ هذه الحماسة هي رأس مالهم حين لا يجدون رأس مال يُمكن أن يتَّكئوا عليه، وإن لم يتمكن متخذ القرار من الاقتراب من عالم الشباب وصندوقه المكتظ بالأحلام، عليه أن يكف عن إطلاق الاحكام غير الواقعية عليهم، وإن لم يتمكن من الإسهام في تمكين الشباب وتفتح زهور أحلامهم، عليه أن لا يصفها بصفات سلبية قد تُغْرِي الآخرين للإضرار بها، وإن كان لا يستطيع تقديم إجابات لأسئلة الشباب العميقة والمركبة، فعليه أنْ لا يُسفِّه أسئلتهم أو يمنعهم من التساؤل.. أسئلة بدون أجوبة خير ألف مرة من غياب الأسئلة، وإن لم ننجح في تقديم نماذج يحتذون بها، علينا أن ندعهم يبحثون عن نماذج تلهمهم، وتحافظ على الحماسة التي تسكن في عقولهم وقلوبهم.