أبعاد استراتيجية (6)

 

د. هلال بن سعيد الشيذاني

استراتيجية التنمية الإنسانية: خارطة الطريق إلى المستقبل

حين تضع الدُّول الخطط الاستراتيجية، فهي تهدف بذلك إلى الوصول إلى نقطة في المستقبل تحقق رؤية مبنية على مستوى التغيير الذي يحصل في الدولة بين نقطة صياغة الرؤية (التخطيط) ونقطة تحقيق الرؤية (بلوغ الهدف). وكلا النقطتين، نقطة صياغة الرؤية ونقطة تحقيقها، مبنيتان على مزيج من الأفكار، والتوجهات، والخبرات، والمعارف، والعطاء، والهمم الإنسانية. وهذا المزيج المتشابك لا شك ومن أجل أن يُحقق النجاح المرجو من وجوده، يحتاج إلى استراتيجية تحقق رؤيته، لتساعده على تحقيق رؤى الاستراتيجيات الوطنية والمؤسسية الأخرى. 

لا نختلف في أنَّ السياحة مصدرٌ مهمٌ للتنويع الاقتصادي، والتعليم ركيزة أساسية للنهوض بالأمة والوطن، والصناعة القاعدة التي تدخل بها الدولة عالم التصدير، لكن أحسبُ أننا لا نختلف أيضاً في أن الإنسان هو محور جميع هذه الركائز المهمة. لكن، لماذا لا توجد استراتيجية وطنية للتنمية الإنسانية على غرار استراتيجية السياحة واستراتيجية التعليم وغيرها من الاستراتيجيات الوطنية؟

وحتى لا يُرى أن المقال ينظر من زاوية مقيَّدة، فيقول قائل: إن تنمية الإنسان جزء من هذه الاستراتيجيات كلها، فإنني أقول بأن تنمية الإنسان العماني، ومن أجل أن تكون متكاملة شاملة في كل جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفكرية تحقق الرؤية الوطنية المشتركة لمستقبل عُمان، تقتضي وجود استراتيجية وطنية موجِهة للتنمية الإنسانية على المستوى الوطني تحمل رؤية مشتركة لمستقبل الإنسان العماني، وترتبط بكل الاستراتيجيات الوطنية والقطاعية الأخرى، لتسدّ الفجوات الحاصلة بين هذه القطاعات، والتي لا تدخل في مجال أي من هذه الاستراتيجيات.

تُوجِّهُ الشبكات المتداخلة من التكوينات والمعارف والقطاعات والمجتمعات التي يعيش في أطرها إنسان العصر الحديث إلى ضرورة وجود تصوّر عام لهذه الشبكات كلها، ونقاط التقائها وتنافرها والأبعاد الاستراتيجية المنبثقة عن هذه الشبكات وعناصرها. وكما لا يمكن أن ينظُر مقدم خدمة، كالكهرباء مثلا، إلى قطعة أرض واحدة دون النظر إلى باقي المخطط أو حتى المدينة، فإن النظر إلى هذه الشبكات كُلٍ على حدة دون الأخذ بالاعتبار بالشبكات الرديفة والقرينة والمتشابكة معها، يمثل نقصا في الصورة التي ينظر إليها المخطط. ولهذا ومن أجل أن يستطيع المخطط أن يبني خطة متكاملة الجوانب عليه أن يرى جميع الجوانب ليرسم لها خطة واضحة المعالم برؤية مشتركة.

إن وجود استراتيجية للتنمية الإنسانية في السلطنة يعني، معرفة مؤشرات المواليد، ومؤشرات التنقل بين مُحافظات السلطنة المختلفة، ومؤشرات التوظيف في القطاعين العام والخاص ومؤشرات ترك الوظائف، ومؤشرات العمالة الوافدة القادمة إلى الوطن، ومؤشرات مواءمة مخرجات التعليم لحاجة القطاعات، والتخصصات المطلوبة خلال مراحل الاستراتيجية، والمجالات التي تواجه نقصًا حادًا في العمالة الوطنية والتي تشغلها حاليًا العمالة الوافدة، والمجالات التي فيها فائض من المخرجات العلمية، والمجالات التي يتوجه الخريجون فيها للعمل في تخصصات غير تلك التي درسوا فيها، والتكاليف المالية التي تتحملها الدولة في تعليم وتأهيل مواطنين لمجالات غير محققة للرفاه الاقتصادي والاجتماعي، والقائمة تطول.

وفي المقابل فإنَّ عدم وجود هذه الاستراتيجية، ومؤشرات الأداء فيها والأسس العامة لخدمتِها للقطاعات المختلفة، يجعل من إيجاد حلول لتحديات توظيف الباحثين عن عمل مشكلة كبيرة، فحين تتشتت المعلومات والخطط، تكون هناك الكثير من المناطق الرمادية غير الواضحة، كما تكون هناك العديد من المجالات التي لم تُعط الاهتمام الكافي لتغطيتها. كما ينتج عن مثل هذا الفقد، توجه بعض المؤسسات إلى اتخاذ قرارات مصيرية في مستقبل الوطن، يُكتشف فيما بعد أنَّها كانت قرارات مصيرية لكنها في الاتجاه غير الصحيح، وهذا بدوره يقود إلى أحد أمرين: الأوَّل، أن يستمر العمل بالتوجه، حفظًا لماء الوجه ولو إلى حين، والآخر، هو إعادة الأمور إلى مسارها السابق، وهو مؤشر يدل على فشل القرار أو التوجه. وليس اللوم هنا على شخوص بأعينهم، وإنما لأن استراتيجية للتنمية الإنسانية تمنح متخذ القرار القاعدة المعلوماتية التي تسند قراره وتُريه المستقبل غير موجودة، وهذا أحد جانبي التحدي.

أما الجانب الآخر، فهو تأهيل الكفاءات الوطنية التي على رأس عملها من أجل أن تُواكب متغيرات المعرفة العصرية وتردم الفجوة المعرفية بين ما تعلمته قبل عقود من الزمن حين تسلمت وظائفها، وبين جديد العلوم في القرن الحادي والعشرين، وهنا يبرز تحدٍّ آخر، وهو عدم اعتبار التنمية الإنسانية (البشرية) والتدريب من بين القطاعات التنموية في البنود المالية للمؤسسات، بل يدخلان في بنود الموازنات التشغيلية للمؤسسات، وهو أحد أكبر البنود ضحية للتقليص، وقد برز ذلك جليًّا في ظل التحديات المالية الحالية، وكأن المخططين الماليين يرون أن التعاقد مع شركات التنظيف والخدمات في المؤسسات أكثر أهمية من تنمية المنتسبين إليها. إن قيمة الفكرة التي هي رمز الإنسان، إن لم توضع في قمة هرم الأولويات، فإننا لا نستطيع أن نطالب العقول بالإبداع والابتكار الذي يعود ريعه للوطن والمؤسسات، ولعلني في مقالي السابق "الابتكار: الذهب الفكري" ناقشت القيمة المضافة للابتكار وأثَرَيهِ الاقتصادي والاجتماعي الكبيرين على المجتمع.

لا أستطيع الجدال بأن للتنمية الإنسانية بُعدًا استراتيجيا واحدًا مهمًّا، لأن لها أبعادًا استراتيجية عديدة مهمة، لأنها تُعنى بقلبِ المجتمعات النابض وركيزة الأوطان الأساسية، وعلى الجهات التي تسعى فعليا إلى تحقيق الرفاه الاجتماعي، أن تجعل من تنمية الإنسان ركيزة أساسية ومحورًا رئيسًا تدور حوله قطاعات التنمية الأخرى في مدارات متناسقة، وهذا يقتضي بطبيعة الحال دعم هذا المجال والتخطيط له مؤسسيا ووطنيا بمستوى عالٍ، وعلى المنتسبين إلى المؤسسات ممن يحصلون على فرص للتأهيل والتدريب أن لا يعتبروها إجازة مدفوعة التكاليف، وإنما تكليف وأمانة يحملونها على عواتقهم تجاه الوطن، وأن يكتسبوا في هذه التظاهرات أكبر قدر من المعرفة والخبرات، وأن يسعوا لأن ينقلوا ذلك إلى زملائهم وزميلاتهم ممن لم ينالوا الفرصة. وعلى المؤسسات أن تنظم طُرُق نقل المعرفة وانتشارها.

 

    تويتر: @abualbadr72

تعليق عبر الفيس بوك