الإسكان الريفي منحة أم محنة؟! (2-2)

علي المعشني

Ali95312606@gmail.com

استكمالا لما ذكرناه في المقال السابق عن الإسكان الريفي، نُضِيف أنَّ هذه الفسيفساء من التفاصيل غير المتناغمة مع القانون أو العقل أو مقتضيات العصر، لابد أن تشغل العقلاء، وتجعلهم يتوسَّمون من الحكومة ضرورة التدخل والتحلي بالإيجابية لوقف هذا النزف السلبي المنظم من الجهود والإجراءات من قبل جميع المعنيين في المحافظة بهذا القطاع.

كان يُفترض في تقديري أن يقوم الإسكان الريفي على فلسفة واضحة منذ فجر النهضة المباركة أو في أي مرحلة من مراحل تطبيقه كي يكون منحة حقيقية للوطن والمواطن ويترجم الحرص الشديد من المقام السامي -حفظه الله- على كل ما فيه خير ورفاه ونفع للمواطن ويؤسس لثقافات وسلوكات تتواءم مع عصر الدولة وثقافتها. وبالتالي فطالما هو سكن ريفي وذو صيغة انتفاع قانوني وليس تملكاً وفي جغرافية ضيقة كالشريط الجبلي والشريط الساحلي للمحافظة ولشريحة بعينها وفي ظل الحرص على احترام العرف الإسكاني الموروث للأهالي وتيسير إدماجهم في ثقافة الدولة بتدرج وسلاسة وفي عجلة التنمية بمفهومها الشامل. كان من المفترض صرف قطع للإسكان بمساحات معقولة حتى يستقر المواطن ويهنأ بالمسكن العصري اللائق، وأن يضاف على تلك المساحات مساحات انتفاع أخرى -بتراخيص مرتبطة بسقف زمني محدد- للراغبين في حيازات زراعية أو حيوانية تمثل قيمة مضافة للفرد والمجتمع والدولة واضعين نصب أعيننا من هذه الخطوة غرس وترسيخ ثقافة الإنتاج لدى المواطن للثروة الحيوانية أو الزراعية الموسمية منها والدائمة لتعزيز هذين القطاعين والارتقاء بهما وتعزيز دخل المواطن والإسهام الإيجابي في الأمن الغذائي، وأن توضع شروط وضوابط لهذا الإسكان وحيازة الانتفاع الزراعي والحيواني، وبهذا نحقق المثلث الذهبي والمتمثل في السكن والاستقرار للمواطن المستهدف، والحفاظ على مكونات البيئة والطبيعة عبر شروط البناء بالمواد غير الثابتة كونه انتفاعا وليس ملكية ووفق ضوابط فنية وجمالية بعينها، وبهذا نوفر على المواطن النزف المالي عبر تلك الشروط والضوابط ونرتقي بذائقته وثقافته ووعيه ونحقق لتلك الجغرافيات الطبيعة الحماية والجمال وتدفق العطاء والديمومة؛ وبالتالي يتحقق الهدف المنشود للإسكان الريفي وفلسفته ويرى أثره في الجانب الاجتماعي والاقتصادي والسياحي والبيئي والجمالي معًا. حيث لا يُعقل أن الإسكان الريفي رغم مسماه وهدفه يستغل في أنشطة لا علاقة بها بالإسكان، ففي ظل غياب الهدف والفلسفة من هذا القطاع نجد السكن الريفي عبارة عن ورشة صناعية أو محل بقالة أو سكن عمال أو مخازن وهذا أكبر دليل على غياب الرقابة والتخطيط بل والترشيد لهذا القطاع؛ حيث إنَّ أي نشاط غير إسكاني تنظمه عادة قوانين أخرى كما هي الحال لقوانين الإسكان والبلديات المعمول به في السلطنة والتي تقنن الحيازات والأنشطة المرخصة بها.

الأمر الثاني، بما أن الإسكان الريفي هو انتفاع وليس ملكا عضوضا للمواطن ويمكن للحكومة نزع ملكيته في إطار قانون المنفعة العامة، وفي ظل التوسع العمراني والازدياد السكاني الهائل بالمحافظة كان من المفترض في تقديري الشخصي وضع ضوابط صارمة ورشيدة للصرف خاصة وأن الأراضي المصروفة هي موارد طبيعية غير متجددة؛ فالمصروف منها لا يمكن تعويضه؛ وبالتالي تقتضي الحكمة منَّا التصرف مع القطاع الإسكاني بعمومه في السلطنة بحكمة وروية وبعد نظر.

فبغياب التنظيم الميداني عن الإسكان الريفي -رغم وجوده على الورق- سادت العشوائية والإخلال البيئي وغاب المظهر الجمالي بالشريطين الجبلي والساحلي؛ حيث تفاوتت الحيازات وأنماط البناء وأشكاله ومواده وألوانه وتكاليفه، وأصبحت أغلب تلك الحيازات لا تقدم أي نفع للوطن أو المواطن -بغياب التنظيم والفلسفة- سوى الوجاهة وإرضاء غريزة التملك لدى بعض الأفراد والجشع والنفوذ لدى البعض الآخر أو تكريس للحياة البدائية للشريحة المستهدفة وعزلها عن ثقافتي العصر والدولة معًا. ومن يُقارن ما بين أريافنا وأرياف غيرنا من البلاد يتبين له بكل أسى وأسف حجم العبث والعشوائيات والأذى البصري وغياب الذوق والضوابط والجدوى والعوائد. فقد أتى هذا العبث على المراعي والغطاء النباتي وجماليات الأرياف والتحفيز السياحي.

الأمر الأكثر إزعاجًا وإقلاقًا في ظاهرة الإسكان الريفي هو طريقة تعامل الجهات المختصة مع إزالة المخالفات والتي يرافقها الكثير من الترهيب والاستعراض غير المُبرر وإبراز لعضلات الدولة وجبروتها وليس هيبتها وثقافتها، وكان حريا بهذه الجهات البحث عن حلول ذكية تفيء بالغرض، وتعكس الوجه المضيء لدولة المؤسسات والقانون وتحفظ هيبتها بلا ضجيج، وعلى رأسها اللجوء الى العقوبات الإدارية الذكية والمتمثلة في وضع اسم المخالف بعد ثبوت تعنته، وبعد صدور حكم المحكمة على قائمة الحظر في تخليص معاملاته الرسمية والمدنية في جميع مؤسسات الدولة العامة والخاصة، إلى حين امتثاله لحكم المحكمة. وهذا الإجراء سيفي بالغرض ويردع المخالفين ويحفظ هيبة الدولة والقانون معًا دون ضجيج أو استعراض أو آثار جانبية، مع العلم بأنَّ المخالفة في التعريف القانوني هي ارتكاب خطأ غير مقصود أو مبيت مسبقًا أي أن الترصد وسوء النية تنتفيان عن المخالف في عٌرف القانون وفلسفته.

قبل الختام، أناشد الحكومة الرشيدة -مُمثلة في مؤسساتها المعنية المسارعة- لوضع حل نهائي ومرضٍ لظاهرة الإسكان الريفي على قاعدة لا ضرر ولا ضرار، بما يترجم مساعي وفلسفة مدرسة الرحمة التي أسسها وأرسى دعائمها مولانا جلالة السلطان قابوس المعظم -حفظه الله ورعاه- وبما يحقق ويرسخ فلسفة هذا القطاع وأهدافه البعيدة ويبسط الوئام والمحبة بين أفراد المجتمع ويحقق السكينة والسلم المجتمعي ويقارب ما بين ثقافة القبيلة وثقافة الدولة، ويُعزز من روح الإنتاجية لدى المواطن، وذلك عبر مراجعة شاملة للقانون والتشاور مع المعنيين والوجهاء وأهل المشورة والبصيرة في المحافظة لإغلاق هذا الملف بصورة نهائية ومرضية ومنصفة للجميع، ولحقن هذا النزف العملي والنفسي فيما يليق ونتطلع إليه.

-------------------------------

قبل اللقاء: السياسة في عُمق فلسفتها، وبعدها ترمي إلى بسط النفع والفائدة على أكبر شرائح المجتمع، وأوسعها لتحقيق الرضا عن الوطن ورفع منسوبه وسقفه.. وبالشكر تدوم النعم.