أبعاد إستراتيجية (5)

الابتكار "الذهب الفكري".. قاعدة الرفاه الاجتماعي المهملة

د. هلال الشيذاني

@abualbadr72

يقول مالكوم جلادوِل: "الابتكار، قلب اقتصاد المعرفة؛ هو في الأساس اجتماعي"، ويقول الرئيس الأمريكي جون كينيدي: "إنَّ الرفاه الاقتصادي إن لم يصحبه نماء اجتماعي، فإنه يُبقي أغلب الشعب في حالة الفقر". يمثل النماء الاجتماعي نماءً فكريًّا عامًّا ينتقل بالمجتمعات من منظومة "اقتصاد المعرفة" إلى "مجتمع المعرفة"، والذي بدوره، يعود ليغذي اقتصاد المجتمع ليكون الاقتصاد مصدرًا للرفاه الاجتماعي ويرقى بالمجتمع بكليته. ويعتبر الابتكار أحد أكبر الأرصدة لدى المجتمعات التي في مقدمة الاقتصادات العالمية الكبرى.

أحسبُ أنَّنا جميعًا تُرَاوِدنا الكثير من الأفكار البديعة التي تُمثِّل حلولا لمشكلات نواجهها في حياتنا اليومية أو في أعمالنا أو تعاملاتنا مع الغير. المشكلة الأساسية الأولى هي أنَّ هذه الأفكار البديعة لا تخرُج إلى الحياة لأننا إما أننا ننساها بعد أن ينتهي الموقف الذي نتجت عنه، أو أننا حين نقف أمام التنفيذ، نرانا عاجزين عن تحويلها إلى حقيقة، إما لضعفٍ في ثقتنا في أنفسنا، أو لأننا لا نملك الموارد الكافية للخروج بها إلى حيّز التنفيذ، أو لأننا لسنا على ثقة بأن الفكرة التي سنخرج بها ستلاقي سوقًا كافية، وأخيرًا وليس آخرًا، ربما لأننا لسنا مهتمين بالتطوير والاقتصاد، ولدينا وظائف تغطي تكاليف حياتنا اليومية.

وفي مقابل ذلك، نجد أنَّنا نقفُ مشدوهين أمام أولئك الذين كسروا حواجز الحياة وأصبحوا من ملًاك البلايين بسبب فكرة نفذوها وانتقلوا بها من مرحلة الخيال إلى الواقع. لكننا حين نعود لنقول بأننا سنخطو الخطوة التي خطوها لنصبح مثلهم، تعود خطواتنا إلى الوراء، ويبدأ القلق من صغائر التحديات والخوف من عدم النجاح لتأخذ مكانها في أنفسنا وننسى الفكرة والأصح نتناساها. لكن ولمفاجأتنا، نجد أننا بعد فترة نتحسّر على عدم تنفيذها حين نكتشف أن الفكرة راودت شخصًا آخر، وقرر الانتقال بها من مرحلة الفكرة إلى مرحلة الواقع.

الطرف الآخر لمشكلة الابتكار، هو الدعم والقوانين والأنظمة التي تَحْمي صاحب الفكرة حتى يُنجز فكرته ويحققها. وهذه مشكلة تحتاج فيها الحكومة أن تأخذ فيها خطوات مهمة ليس لأجل المبتكرين، وإنما لأجل اقتصادها الوطني؛ لأنَّ العوائد المالية التي ستعود على المبتكر العماني، هي جزء من الاقتصاد الوطني، الذي يقوم بنيانه على وفرة السيولة النقدية في الدولة، وهو ما يُغني الدولة في كثير من الأحيان عن البحث عن مستثمرين من الخارج، يأتون ببعض أموالهم ليديروها في الوطن، ثم يعودون بعد ذلك لأخذها وأكثر منها.

تؤسس كثير من الابتكارات لشركات ومصانع كُبرى توظِّف الموارد الطبيعية للدول أو بعض منها لتحوّلها إلى منتجات ذات أسواق عالمية تعود على الدولة بمبالغ مالية كبيرة، كما تُوفر وظائف متعددة لأبناء وبنات الوطن، إضافة لتوفير مساحة من الخدمات التي تقدمها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في القطاعات اللوجستية والإدارية والمالية والإعلامية وغيرها. لهذا فللابتكار بُعدٌ استراتيجي مهم في الرقي بثلاثة مرتكزات رئيسة في مستقبل كل دولة. فمجتمعيًّا، يحل الابتكار مشكلات الحياة اليومية، ولكن من قِبل المجتمع نفسه، دون استيراد أفكار ومنتجات الغير التي قد لا تتوافق مع طبيعة تكوين الحياة في الوطن. واقتصاديا، يعمل الابتكار على توظيف الموارد الطبيعية والإنسانية للوطن، ويُبقي على الرفاه الوطني العام في مستوى عالٍ من خلال توفير فرص وظيفية عديدة، ومن خلال تصدير المبتكرات للخارج كمنتجات، والحفاظ على كمٍّ من أموال الوطن داخل حدوده بالاستغناء عن شراء المنتجات من خارج الحدود؛ حيث يرتفع معدَّل الرفاه لدى المجتمعات المُصنِّعة ويقل لدى المجتمعات المستهلكة. أما سياسيًّا، فيمثل الابتكار خط الإسناد الثاني لسياسة الدولة؛ حيث يقلل ارتكازها اقتصاديًّا واجتماعيًّا على دولٍ أخرى أو يقربها من خط الاستقلال إلى أبعد الحدود. وهكذا، حين يكون الوضع الاقتصادي قويًّا ومبنيًّا على ذخيرة فكرية ومجتمعية عالية، لا تنكسر شوكة الدولة السياسية أمام ليِّ الأذرع من قبل المنافسين؛ أما الاقتصاد المبني على ما يصنعه الغير، فهو اقتصاد مبني على تحكّم المصنِّع في المستهلِك.

وأخيرا.. فِكريًّا، يشجع الابتكارُ العقولَ المبدعةَ على الإبداع، ويوجِّه المجتمع نحو النظر إلى المستقبل من خلال تحويل هدف المجتمع الإستراتيجي إلى بناء مستقبل أمة يرقى بها أبناؤها وبناتها؛ من خلال تطوير قاعدة من الاستقلال الاقتصادي والفكري والاجتماعي. وهنا يبرز للتعليم بقطاعيه المدرسي والعالي دور مهم في الإسهام في إزالة الردم من على فكر الابتكار وصقل مكنوناته حتى ينقشع التردد عن المترددين، وتنغرس الثقة في نفوس المبتكرين، وتعمل مؤسسات الدولة بقطاعيها العام والخاص على دعم الابتكار بالقوانين والمال، لتنتقل الابتكارات من زوايا التخيّل المظلمة إلى وضح الحياة البارزة. فإن قام التعليم بدفع العجلة الأولى في هذا المسار، فالمُتَوَقَّعُ أن باقي المعطيات ستتوفر، لأن التأسيس العلمي والفكري الذي ترسمه المدارس والجامعات، هو القاعدة المؤسِسَةُ للتغيير المجتمعي في كل مستوياته وأطره. وبما أن العيش بين حفر الاستهلاك لا يبني مستقبلا زاهرًا ولا يحقق طموحات عظيمة، وكما أن النفط والذهب لا يمثلان قيمتهما إلا بعد استخراجهما، هكذا هي المُبتَكَرات، لا قيمة لها إلا أن يُزَال عنها الردم وتُصقل بالتجربة والتصنيع.

تعليق عبر الفيس بوك