لماذا نجحت المراكز الصيفية وأخفقت المدرسة؟

 

حميد السعيدي

البيئة التربوية الجاذبة هي ما تستطيع أن تبني علاقة اتصال بينها وبين المتعلمين بصورة فاعلة، وتعمل على جذبهم وحبهم لها، حينها تصبح عملية التعلم فاعلة وناجحة، ويصبح الطلبة منجذبون نحوها ويرغبون في الذهاب إليها بكل حماس ودافعية، والوصول إلى هذا المستوى من العلاقة بين البيئة التربوية والمتعلمين يمثل العنصر الأساسي في المنظومة التعليمية، ولكي تحقق ذلك فالأمر لن يكون سهلاً في ظل المتغيّرات التي تؤثر على هذه العلاقة، فعملية التعلم قائمة على التعامل الإنساني، وهو من العلاقات التي يجب أن تكون قائمة على المصداقية والرغبة الحقيقية في تحقيق الأهداف.

وخلال الفترة الماضية طرح الكثير من أولياء الأمور تساؤلاُ مهما يجب أن يكون حاضراً في النقاشات التربوية، نتيجة لما لاحظوه على أبنائهم من تغيّر لم يعهدوه في فترة الدراسة المدرسية، ما الذي يجذب أبناءهم للمراكز الصيفية، ويرغبون في الذهاب إليها؟ وهم في حماس وفاعلية ورغبة للذهاب، ويرجعون بذات الحماس والدافعية، تساؤلات تجول بخواطرهم، رغم قصرة فترة الانضمام إليها التي لا تتجاوز الأسبوعين، ولكن هذه الحالة من العلاقة الإيجابية لا يلاحظونها أيام الدراسة المدرسية، فلماذا نجحت المراكز الصيفية وأخفقت المدرسة في خلق البيئة التربوية الجاذبة؟

الواقع التربوي الذي يحدث في المراكز الصيفية بالرغم من أنّ المبنى المدرسي، والمعلمين، ووسيلة النقل هم ذاتهم لم يتغيروا، هي نفس العناصر تتواجد أيام المدرسة، يجذب الطلبة للذهاب إليها والرغبة في التعلم بكل حماس ودافعيّة، وينجذبون نحوها لا يرغبون في الغياب إطلاقا لأي سبب، لأنّهم لا يريدون أن يفقدوا شيئا من عملية التعلم التي تحدث في المراكز، في حين أنّ الأمر يختلف تماما أيام الدراسة الاعتيادية فتشعر أنّهم يساقون وهم غير راغبون في الذهاب إليها، ويعودون وهم محملون بأثقال نفسية لا تشجعهم للعودة من جديد، فما الذي يحدث في المركز للصفية؟

 ربما هذا التساؤل أجاب عنه "جان بياجيه" والذي يعتبر الأب الروحي للنظرية البنائية والذي ركز على أن تحقيق التعلم المعرفي لا يحدث إلا من خلال التفاعل بين الطفل والواقع الذي يتعايش معه، بحيث يسعى تحت الضغط المعرفي لاكتشاف المعرفة، وأن عملية التفاعل قائمة على بذل الجهد والنشاط العقلي لكي يتمكن من معالجة الضغوطات المعرفية، للوصول إلى المعرفة الجديدة، حينها يجد نفسه منجذبا نحو اكتشاف معرفة أخرى، وخلال هذه العملية هو يكتسب العديد من مهارات التعلم، خاصة تلك التي تتعلق بمهارات التفكير العليا، فالمتعلم عندما يبحث عن المعرفة بذاته ويعتمد على قدراته تحت توجيه وإرشاد المتعلم، يصبح أكثر رغبة للتعلم، وفي ذات الاتجاه فإنّ "جون ديوي" يؤكد على أنّ المعرفة آلة وظيفية مهمة في مجال الحياة، وهي قائمة على النشاط الذي يبذله الإنسان في الوصول إلى المعرفة.

وما يحدث في المراكز الصيفية يركز على الأنشطة التي يتفاعل معها المتعلمون بعيداً عن الكتب الدراسة أو أنظمة التقويم التحصيلية، وهنا يتحقق شرط التعلم من أجل التعلم، حيث تركز المراكز الصيفية على الاهتمام على مجموعة المعارف والمهارات والقيم، كمهارات الحاسوب، ومهارات الرسم والتصميم، ومهارات الحرف اليدوية، مهارات ترتبط بالابتكار والاكتشاف، والمهارات الرياضية والفنية، كما تركز على بناء المواطنة في نفوسهم، من خلال تبني العديد من المشاريع الوطنية، ويسعى القائمون عليها إلى اكتشاف المواهب والقدرات المميزة والعمل على تطويرها، لذا فإنّ معظم الطلبة أبدوا انطباعا إيجابيا تجاه ما يحدث من أنشطة متنوعة في المراكز الصيفية.

إذن العامل الأساسي في مقدرة هذه المركز على جذب الطلبة هو عنصر التعلم القائم على بناء المعرفة انطلاقا من جهد ونشاط المتعلم، وعملية التقويم التي تعتمد على التقويم من أجل التعلم، بمعنى أنّ التقويم يحدث فوريا من أجل تطوير أداء المتعلمين أثناء ممارستهم للأنشطة، وهنا يختفي عامل الخوف من التقويم النهائي، لذا فإن الطلبة تكون لديهم الرغبة أكثر من أجل التعلم، مما يجعل من عملية التعلم قائمة على المثابرة والنشاط والدافعية، وهي جزء من التحديات التي تفتقدها المدرسة ولم تستطع أن تحقق تلك البيئة التربوية الجاذبة للتعلم.

وبالرغم مما حققته المراكز الصيفية من نجاحات يأتي في مقدمتها تغير اتجاهات الطلبة تجاه عملية التعلم، إلا أنها تواجه العديد من التحديات ومنها الموازنة المالية التي يجب أن تكون قادرة على استيعاب أعداد كبيرة من الطلبة، وأيضا تمكن القائمين من تنفيذ العديد من الأنشطة المتنوعة في مختلف المجالات، ما يساعد على خلق بيئة تعلم ناجحة، وتستطيع أن توجه وقت فراغ الطلبة التوجه الإيجابي، إلى جانب الحاجة إلى إضافة بعض الأنشطة المرتبطة بمهارات اللغة الإنجليزية، والمهارات الاستكشافية المرتبطة بمواد العلوم والرياضيات، والاستفادة من شبكات التواصل الاجتماعي في تحقيق الوصول الإعلامي إلى جميع الطلبة، مما يزيد من أعدادهم ويحقق التعلم للجميع.

وهذه النجاحات التي تحققها المراكز الصيفية تجعلنا نعيد التفكير في إعادة الرؤية في تصميم منظومة تعليمية حديثة تنطلق من النظريات الحديثة التي تعتمد على التطبيق الحقيقي للتعلم القائم على نشاط المتعلم وجهده في البحث عن المعرفة، وربما يعود بناء الأمر إلى التجربة الفنلندية التي أثبتت نجاحها في عملية التعليم، والتي تعتمد على النشاط الذي يوجه به الطلبة إلى إنجازه، بعيداً عن الكتاب المدرسي، ويعتمد على منظومة التقويم من أجل التعلم، وفقا للمعايير والمقاييس التي يُراد من الطلبة تحقيقها في نهاية التعلم.

Hm.alsaidi2@gmail.com