النسخ واللصق .. وطرق الانتحال!

 

هلال الزيدي

 

ما بين النسخ واللصق ثوانٍ غير معدودة.. وما بين التعدي على أملاك الآخرين والانتشاء بالمقولات والعبارات ثوان لكنها معدودة كونها تمثل انتهاكات صارخة لا يقبل بها الفكر.. فالكشف عن تلك الجريمة وإعلانها للعامة لا يحتاح إلى جهد جهيد وإنما كبسة زر واحدة بعد نسخ ولصق، وسيقوم "العم" جوجل بكل شيء.. لأنّها التكنولوجيا التي جاءت بكل شيء.. وبالتالي كثر المنتحلون وقلّ المؤلِّفون فتأثر الإنتاج الأدبي والثقافي والصحافي بالقيم الخلاّقة، فكل شيء معاد.. معلب.. لا يتناسب مع الواقع أو الخصوصية المجتمعية، وكل وسائل الإعلام ضجّت من كثرة التعدي على حقوق الآخرين.

لقد ظهرت في الآونة الأخيرة الكثير من أشكال الانتحالات التي بدورها أثرت على سُمعة العديد من وسائل الإعلام، لأنها تعدت الإطار المهم الذي تقوم عليه تلك الوسائل وهو المصداقية بجانب الدقة والموضوعية، مما حدا ببعض المهتمين إلى تتبع تلك الانتحالات وكشفها للعامة، من باب المسؤولية الثقافية والإنسانية وإيجاد رادع أو ربما علامات ومؤشرات للوسيلة الإعلامية لكي تنتقي كُتّابها بطريقة مهنية دون ترك المجال مفتوحاً لمن هبَّ ودبَّ، لمجرد أنّه أتى بمادة صحفية تسد مساحة معينة، هذا مع تأكيدنا على احترام الجميع.

لعل سقوط بعض الصحف في تلك الإشكالية جاء من ثقتها التامة في مصادرها الذين يغذون وجودها المادي والمعنوي، وربما لعدم ظهور إشكالية الانتحال كظاهرة كبيرة، ولم تعتد عليها تلك الوسائل من قبل، لكن ومع محاولتنا للبحث عن عذر إلا أننا لا يمكن أن نرضى بتلك الممارسات في حقل الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية، وعليه فمن الواجب أن تنتبه مختلف الوسائل لهذه القضية حتى لا تقع في مصيدة الانتحالات وبالتالي تفقد ثقتها أمام الرأي العام.

نالت الصحافة المقروءة النصيب الأكبر من تلك الانتحالات، لأنّ الكشف عنها كما أشرت سابقا سهل جدًا، إلا أنّ الوسائل الأخرى المسموعة والمرئية لا تخلو من هكذا قضيّة، فكثير من البرامج الإذاعيّة والتلفزيونية "ينتشي" خلالها المذيع بمقدمة طللية ومصطلحات عميقة دون أن يشير إلى مصدرها، فكأنّه ينسبها لنفسه، لذلك أصبح الكشف عنها صعبٌ جداً لكون المتتبعين لتلك الوسائل قلة ولا يُركزون على المحتوى لأنّ أداة التركيز سمعية ولا يمكن الرجوع إليها للتأكد منها، من هنا أصبح على المهتمين بتتبع الانتحالات التركيز كذلك ما يبث عبر الأثير وعبر الفضائيات من أجل سمو رسالتهم العلمية والأدبية.

يعتبر منهج الرصد الإعلامي وتحليل المضمون أحد الفنون الإعلامية التي تكشف الانتحالات والتعدي على الحقوق الأدبية، ولقد أشرت في مقالات سابقة إلى ضرورة إنشاء مركز يهتم بمنهجية الرصد والتحليل لكافة وسائل الإعلام، وهذا يُمكِّننا من إيجاد بيئة نظيفة تُقدّر الإنتاج الفكري بكل أشكاله النثرية والشعرية وتعمّق ثقة النخب الثقافية في المجتمع، كما أنّه يساهم في التحليل والتفسير لكثير من الظواهر التي تخدم توجهات المجتمع.

 وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف تشكيلاتها هي أيضا وكر لممارسة الانتحالات بشكل كبير، كون الرقابة فيها شخصية، لكن انتشارها كبير، فكم من تغريدة بلغ معيدوها الآلاف، وهي جاءت بمضمون مقتبس من مقولة أو من مقالة أو أثر أو من كتب تاريخية أو أدبية، دون أن يشير صاحبها إلى مصدرها، فقط من أجل أن ينشر التغريدة باسمه لتلاقي مناصرين كثرًا، إلى جانب ذلك فإنّ التغريدة يمكن أن تراها لأكثر من شخص بنفس المحتوى، وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة تعزيز الرقابة الذاتية لكل من أراد نشر معلومة دون أن يعترف بمصدرها، حتى لا تصبح الانتحالات أمراً سهلاً وبالتالي تنتهي المصداقية في هذه الوسائل.

لم تقتصر صفة الانتحال على نقل ـ النسخ واللصق ـ جملة واحدة أو فكرة، وإنما إلى نقل فقرات ومقالات بأكملها حتى بعناوينها، وهذا حال يؤسف عليه، مع وجود رغبة عارمة في المجتمع تدعوا الكل بأن يكونوا كتّابا لدرجة أصبحنا لا نستطيع أن نحصي ممن يسمّون أنفسهم بالكُتّاب، فهم من كل حدب ينسلون، وربما هذا مرده إلى البحث عن الشهرة السريعة من بوابة النشر والصحافة التي أصبحت سهلة وفي متناول الجميع وبدون قيود أو أسس واضحة ومطبّقة.

هناك أيضا من يلجأ إلى "الاجترار" وهو إعادة فقرة أو أكثر مما نشره سابقا، للاستدلال والتأكيد، لكنني أرى أنّ الاجترار هو علك الفكرة واستنساخها في زمن البحث عن الجديد، ولا أميل بأن يكون الاجترار في فقرات متعددة وإنّما يكتفى بعبارة واحدة أو عنوان المقال، من هنا فإنّه من الضروري وضع وتفعيل أخلاقيات العمل الإعلامي وميثاق الشرف الإعلامي، والتفريق بين ممتهني الصحافة وبين المقحِمون أنفسهم إليها.

همسة:

أتذكر دائما عندما كنا نتعلم ونتدرب على أبجديات الصحافة والكتابة أننا لا نتجرأ أن نضع اسمنا على الخبر، وذلك لعدم السماح لنا بذلك، لأنّ التمرّغ بالحبر يحتاج إلى أدلة وبراهين وسنوات عجاف، وكنا نعلم بأنه ليس كل من حمل القلم أصبح كاتبا، لذلك لم يكن الأمر هيناً، كما هو عليه الآن.

abuzaidi2007@hotmail.com