التقاعد بوظيفة حكوميَّة

حميد السعيدي

الاقتصاد يعتمدُ على المَوَارد البشريَّة كقوَّة قادِرَة على الإنتاج، وهو ينطلقُ من منظور أنَّ الفردَ، سواء موظفًا أو عاملًا، يجب أن يكون له إنتاج؛ نتيجة استغلاله قدراته العقلية أو الجسدية؛ بحيث يُسْهِم في إيجاد موارد اقتصادية على المؤسسة التي ينتمي إليها، ومقابل هذا الجهد فهو يحصل على الأجر، وهذا الفكر لا يختلف عليه أحد، فلا يُمكن أن تشغل وظيفة دون أن تقوم بجهد معين.

ولكنْ هُناك من يرغب فعلاً في أن يحصل على وظيفة دون أن يقوم بأي عمل مقابل الأجر الذي يحصل عليه، مُستغلاً حالة ما يمكن تسميتها بـ"الفوضى الإدارية"، خاصة مِمَّن يشعر بكثرة الروتين، أو ممن يقترب من سِن التقاعُد الاجباري، فيرغب في التغيير والبقاء في المؤسسة دون أن يقوم بأي جَهْد وظيفي، خاصة وأنَّ بعض الوظائف لها استثناءات من الحضور للمؤسسة، ووجود مثل هذه الوظائف يُمثل عبئًا ماليًّا واقتصاديًّا على الحكومة، وتتحوَّل المؤسسات الخدمية أو المنتجة إلى مؤسسات للرعاية الاجتماعية، تقدِّم خدماتها للراغبين في التقاعد أو العاجزين عن القيام بواجباتهم، وهذا نتيجة لحالة من الفوضى والترهُّل الذي يصيبها، وتصبح عاجزة عن إيجاد القوانين والأنظمة التي تعمل على توصيف المهام الوظيفية وتحولها على أعمال يقوم بها الموظفون دون استثناء.

فتظهر وظائف يتنافس عليها الكثير ممن يريد أن يصل إلى سن التقاعد الأجباري، أو الذي أنفقت عليهم الحكومة مبالغ كبيرة في سبيل دراستهم العليا، ولكنهم يحتفظون برموز قبل أسمائهم مما يجعلهم رهينة لذلك الرمز، ولا يرغب إلا في قراءة الصحف اليومية وشرب فنجان من القهوة، هذا إذا أراد أن يمارس دوامه اليومي، وإذا لم يرغب فطبيعة هذه الوظيفة تتيح له المجال للحضور أو الغياب، فأصحاب هذه الوظائف معفية من المساءلة أو التوقيع للحضور بالبصمة أو غيرها.

فتأتي وظيفة الخبير في مُقدِّمة هذه الوظائف، رغم أهمية هذه الوظيفة ومكانتها في السلم الوظيفي، والمهام التي وصفت للعمل الذي تقوم به، إلا أن واقع هذه الوظيفة هي عبارة عن مرحلة تسبق التقاعد الإجباري، فيتنافس عليه الكثير نظرًا لعدم وجود مهام يقومون بها، ولا مرتبطون بالحضور اليومي للمؤسسة، وهذا قمة الفساد الإداري وعجز المؤسسات عن مُعالجة مثل وجود هذه الوظائف دون أن يكون هناك عائد من هذه الوظيفة.

وتعدُّ وظيفة المستشار أحد هذه الوظائف؛ فهي تُعطى لكبار السن؛ لأنهم أصحاب الرأي والمشورة، وعليهم يعتمد نجاح المشاريع أن تقوم بها المؤسسة، ولكن مما نشاهده من إخفاقات كثيرة بمتعلقة بالمؤسسات الحكومية، نتساءل: أين دور هؤلاء الخبراء والمستشارين، خاصة وأنَّ المؤسسات تلجأ لبيوت الخبرة والمؤسسات العالمية في الاستشارة أو الحصول على الدراسات التي تقوم على تقييم أعمالها، إذن نحن أمام مرحلة خطيرة تحتاج مراجعة خاصة إذا كان هناك أعداد كبيرة ممن يشغلون هذه الوظائف، حتى وصلت الحال إلى ابتكار وظيفة جديدة نظرا لعدم الاكتفاء بالوظائف السابقة، وهي مستشار المستشار، فأيضا المستشارون بحاجة لمن يقوم بمساعدتهم على إظهار تلك الأفكار البنائية التي تعالج المشكلات والتحديات التي تواجه المؤسسات؛ مما حدا بالمؤسسات لابتكار هذه الوظيفة، والأغرب من ذلك أن هذه المؤسسات على معرفة وعلم بعدم جدوى هذه الوظائف وأنها لا تعتمد عليها في صياغة مخططاتها، إلا أن هناك قرارات تعيين تصدر بين الفينة والأخرى يتصدر قائمتها الخبراء والمستشارون.

ففي ظلِّ الأزمة الاقتصادية التي تعصفُ بالدول التي تعتمد على النفط كمصدر قومي أساسي دون أن ترغب في تنويع مصادرها، تحتل قضية الوظائف الحكومية مقدمة هذه المشكلات، خاصة وأنَّ جزءًا كبيرًا من الميزانيات الحكومية يتجه نحو الرواتب والمعاشات، حتى وصلت الحال لظهور وظائف كمسميات دون أي مهام يقوم بها، نتيجة للرغبة في مُعالجة مشكلة الباحثين عن عمل؛ فتختفي البطالة من الشوارع وتظهر على المكاتب، فخلق أعداد كبيرة من الموظفين في المؤسسات الحكومية، دون وجود مهام يقومون بها يثير تساؤل: ألا يُمكن أن تصبح المؤسسات الحكومية نتيجة ذلك عبئًا على التقدُّم والتطوُّر الاقتصادي؟

التنافس على هذه الوظائف يعتبر حقًّا مشروعًا، ورغبة للكثيرين للاستفادة من المميزات التي لا تتاح إلا في هذه الوظائف، حتى وصلت الحال بالبعض لتساؤل حول كيفية إيجاد مخرج من مساءلة الضمائر الداخلية، فيقول أحدهم ممن يشغل هذه الوظائف، هذه ليست مسؤوليتي؛ فالمؤسسة التي أنتمي إليها لا تقدم لي أيَّ أعمل قوم به منذ توليت هذه الوظيفية؛ فما هي الجدوى من حضوري اليومي إليها؟ فهو يلقي باللائمة على المؤسسة؛ لذا لا يفضل الجلوس أمام تلك الطاولة دون أي عمل يقوم به، فالقضية لا تتعلق بالموظفين وإنما بالمؤسسات التي عجزت عن الاستغلال الأمثل لموظفيها.

... إنَّ عملية تقنين الوظائف في المؤسسات مرحلة لابد من القيام بها، فلا يمكن ترك هذه الفوضى العارمة، والجميع يُدرك حجم الأزمة الاقتصادية التي تشير إليها الإحصائيات التي تصدرها قائمة العجز السنوية؛ فمعالجة هذه الوظائف أصبح أمراً يُمثِّل أهمية اقتصادية، فيمكن استبدال هذه الوظائف بأخرى تفتح المجال لوجود الشباب ذوي أفكار راغبة في التطوير والتغيير، والعمل على تقييم أعمال الموظفين وتطوير منظومة التقاعد، أو العمل على إيجاد قوانين تسمح بالانتقال بين المؤسسات حسب احتياجاتها من الموظفين، مع وجود حوافز تشجيعية للانتقال؛ مما يُسهم في مُعالجة البطالة المقنعة التي بدأت تظهر في الكثير من المؤسسات الحكومية.

Hm.alsaidi2@gmail.com