النصر للمقاومة..!

حاتم الطائي

أربعة عشر يومًا سطَّرتْ فيها المقاومة الفلسطينية مَلحَمة صُمود جديدة؛ عنوانها: "إرادةَ الشعبِ الفلسطينيِّ لن تُقهر".. انتصارٌ معنويٌّ في ظَاهِره، عميق في دلالات أبْعَاده، نجح فيه المقدِسيون في إفشال أخطر مُخطَّطات الكِيَان الصهيوني لفرض السيطرة والسيادة على المسجد الأقصى.. مُرَابِطون جُدد، يسقطُ منهم الجَرْحَى والشهداء، فيكونَ ذلك بمثابة ميلاد جديد لقيادات أكثر قوَّة وعنفوانًا واتزانًا وثباتًا تخرجُ مِنْ رَحِم المواجهة، في انتصارٍ فلسطينيٍّ بامتياز على "أفكار الشيطان"، مُجسَّداً بقيادة الاحتلال، والموهُوم بقدرته الخارقة على الاستئساد في أرضٍ خالصةِ العروبة.

أربعة عشر يومًا أَغلَقتْ فيها قوى الشرِّ المسجدَ الأقصى، والأحياءَ والشوارعَ المتاخِمَة لسور القدس التاريخي، نُصِبتْ بوابات إلكترونية، ومتاريس، وحواجز عسكرية وشرطية حول الحرم المقدسي، واندلعتْ فيها مُواجهات هي الأعنف منذ ما يقارب الخمسة أعوام، أيام الحرب التي شُنَّت على قطاع غزة وأطلق عليها الكيان الصهيوني "عامود السحاب"، وردَّت عليها فصائل المعارضة بعملية "حجارة السجيل" -أو ما أُطْلِق عليه إعلاميًّا "انتفاضة الحجارة".. أربعة عشر يومًا مُورِس فيها القمعُ الإسرائيلي بأبشع صُوَرِه، ونُظِّمت فيها حَمَلات اعتقال مُمنهجة، جُرِح فيها المئات، وسَقَط فيها عشرات الشهداء، وشوهِدَت مروحيات الاحتلال تجوب سماء المدينة المقدَّسة، وخرجتْ بيانات الشَّجب والتنديد تِبَاعًا، عاكسةً وضعًا عالميًّا -وعربيًّا من قَبْلِه- لم يتغيَّر كثيرًا عن ذي قبل، وَضْعًا احتفظ بمقعد "المتفرِّج" السلبي وليس الفاعل، وضعًا لم يُحرِّك أيَّ ساكنٍ في مياه القهر الفلسطيني والصِّلف الإسرائيلي، في قضيةٍ المُفْتَرض أنَّها قضيتنا العربية الأولى. وإن كُنت لا أؤمن بنظرية المؤامرة، إلا أنَّ التعاطي العالمي مع مُستجدات القضية الفلسطينية لا يُعطي أيَّة مؤشِّرات تصبُّ في صالح "غير المؤامرة". وبالمناسبة، فأزماتنا المتلاحقة تِبَاعًا منذ غَزْو العراق 2003م، ما هي سوى تطبيق واقعي لمنهجية "الفوضى الخلاقة" التي تُؤمن بها واشنطن لرِعَاية مصالح تل أبيب. ورغم كلِّ هذا، صاغتْ "جُمعة النصر"، أمس الأول، عنوانًا جديدًا للمقاومة، بسواعد لم تَضْعُف، وعزائم لا تلين، وجذوة تضحية وثورة شعبية لم تخبُت في النفوس، فكان الانتصار هذه المرة امتدادًا لانتصارات ممهورة بتوقيع الشعب الفلسطيني نفسه، لا بتوقيع اتفاقات ووساطات، لم تُفلح يومًا في إعادة بوصلة الحق باتجاه غزَّة الصمود.

لقد أذهلتْ المقاومة الفلسطينية، خلال الأيام الماضية، العالمَ أجمع برَبَاطة جأشها، وقدرتها على الاستبسال، وتطويع الإمكانيات المحدودة لمواجهة ترسانة التسليح الإسرائيلية؛ مما أدخل الرعب وبث الفزع في نفوس الإسرائيليين الذين لم يجدوا بُدًّا سوى وقف الانتهاكات، وإزالة البوابات، ورفع الكاميرات، إذعاناً ورضوخًا لصلابة عَزْمِ المقاومَة، وإدراكًا لحجم قدرتها على السير في مِضْمَار التحدي إلى نهاية الشوط.

لقد أثبتتْ الأزمة الأخيرة كذلك أنَّ أوراق اللعبة ليست بيد إسرائيل وحدها، وإنما يُمكن أنْ يكون للفلسطينيين اليد الطولى فيها، فيما لو أحسنوا توظيف عناصر الضغط التي يملكونها، تجسيدًا لعزم المقاومة، وإرادة الحياة، ورفض الضيم، وتوحيد الصفوف على كلمة سواءً، خلف قيادة واحدة، بتحقيق المُصَالحة الوطنية، وإنهاء الانقسام، الذي لا يُمكن تبريره ولا تفسيره إلا بتغليب المصلحة الفصائلية على المصلحة الوطنية.. فحالة السُّعار التي تُصيب حُكومة نتنياهو بين الفينة والأخرى، لم ولن تنال من إرادة المقاومين، ولن تفُت في عضدهم، بل ستزيدهم إصرارًا على المضي قدمًا لردع العدوان مهما تعاظمت التضحيات، وستكون إسرائيل هي الخاسر الأكبر الذي يجرجر أذيال الخيبة عائدا إلى وكره في أعقاب كلِّ استهداف فاشل لقوى الصمود في غزة أو غيرها من الأراضي الفلسطينية. فأحداثُ التاريخ الطويل من العُدوان، والسجل الصهيوني الطافح بالممارسات غير الإنسانية، رغم ما فيه من فصول تراجيدية، إلا أنه يكتب صفحات مضيئة للمقاومة الفلسطينية، تُرسِّخ في وجدان الجميع قناعةً بأنَّ الستار لن يُسدل إلا بيد الفلسطينيين أنفسهم، وأنَّ راية النصر لن تُرفع سوى بسواعد المقدسيين، وأنهم سيظلون باقين على أراضيهم مهما تكالبتْ عليهم المحن، وتعاظمت الابتلاءات، ورغم وقوفهم في الساحة وحدهم.

.. إنَّ ما تحقق من انتصار في معركة الأقصى الأخيرة، وما بَرْهَن عليه من تلاحُم فلسطيني -شعباً، وقيادةً سياسيةً، ودينيةً: إسلامية ومسيحية، وفصائلَ وتنظيمات- وصمود، ونضال، وإرادة وتضحية، يضع نقاطًا جديدة على حروف قديمة ليُغيِّر معناها، وتتغيَّر معها قناعات العالم بأسْرِه؛ قناعة بأنَّ الفلسطينيين -وفي طليعتهم المقاومة الباسلة- هم من سيرسمون ملامح المرحلة المقبلة بإرادة النضال، والصُّمود الأسطوري في وجه الانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية، وهم في النهاية من سيُعِيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة، ومن سيُرْسِي الحلولَ المنصِفَة والعادِلَة لها، وهم من سيصيغون الحلولَ النهائيَّة لقضيتهم؛ بما يكفل لهم سلامًا حقيقيًّا وسيادةً كاملةً على أرضهم، وقيام دولتهم المستقلة، عاصمتها القدس الشريف.