عُمِّرت البلدان بحب الأوطان

عبدالله العجمي

عندما نرى أنَّ القوميين ينظرون لوطنهم الذي يعيشون فيه بحدوده الجغرافية والإقليمية، أنه امتداد لوطنهم القومي الأعظم، وعندما يتجاوز الماركسيون هذه التعريف ليُركِّزوا على مبدأ الأمَّة في إطار حركة الطبقة الكادحة؛ مما يضع وطنهم يتحرك في البُعد الأممي الكبير حسب منظورهم، ثم نعود لنستنطق القرآن الكريم في ذلك لِنلاحظ أنه يوحي لقارئه بأن هنالك ارتباطاً عاطفيًّا عميقاً بين الفرد وأرضه التي استوطنها، كقوله تبارك وتعالى في كتابه العزيز في الآية 40 من سورة الحج: "الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق"..وغيرها من الآيات التي إذا ما تتبّعناها لوجدناها قد سلطت الضوء على هذا الارتباط الوثيق، ونلاحظ أيضاً أنه -أي القرآن الكريم- تدرج في مراحل التأكيد والتوثيق الذي يريد تثبيتها وترسيخها في نفس الفرد فها هو نراه يشد الفرد إلى أرضه بطريقة يكون الإبعاد عنها قسراً مسألة خطيرة يمكن أن تؤرخ لمرحلة أكثر عمقاً ألا وهي شرعنة حق الدفاع عن هذه الأرض، بل وأصدر وساماً من أثمن ما يكون لمن يُقتل دِفاعاً عن أرضه ووطنه ألا وهو وسام الشهادة.

ومن هنا، نُدرِك أنَّ الإسلامَ يُحاول ألا يفصل الإنسان عن الخصوصية العاطفية التي يتعايش معها في وجدانه، سواءً فيما يحبه أو ما يكرهه بل نلاحظ أنه يسعى لأن يُهذبها بطريقة فريدة وذكية بحيث تترسخ إيمانياً، ومما يبرهن على ذلك هو الحديث المشهور: "حب الوطن من الإيمان" والذي يؤكد هذه العلاقة السامية بين عاطفته بوطنه وإيمانه، وكذلك حين خرج النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- مهاجراً من مكة المكرمة وقف على مشارفها ونظر إليها مخاطباً: "ولولا أنني أُخرجت منك ما خرجت"، ثم تتابعت المقولات التي خلدتها أمهات الكتب في هذا الشأن، كقول الإمام علي: "عُمرت البلدان بحب الأوطان"، وأيضاً ما نُسِب إلى الأصمعي: "إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه"، كل ذلك يبرهن أن مسألة حب الأوطان هي مسألة عاطفية بل هي عاطفة فطرية عظيمة ولصيقة بالوجدان الانساني.

ولا بد أنْ أشير بعد هذه المقدمة إلى أن للأوطان في وعينا الفكري مسارين مختلفين: شعوري عاطفي، وسياسي قانوني، أما العاطفي فهو متصل بجوانبنا الحميمية، والتي تخضع لانفعالاتنا وتفاعلنا تجاه ما يحدث حولنا في أي بلد، بينما السياسي فيحوم في إطارات حددتها الحدود الجغرافية التي تفصلنا عن دول الجوار، وبين هذا وذاك فنحن جميعنا مواطنون نتحد في هذا الوطن: "سلطنة عُمان".. لتأتي مناسبة كهذه لتزيدنا تماسكاً ببعضنا وتمسكاً بهذه الأرض الطيبة.. فمنذ بزوغ فجر الثالث والعشرين من يوليو 1970م؛ والنهضة العمانية بماضيها وحاضرها لا تزال تشق طريقها بخطى واثقة نحو مُستقبلٍ أزهى وأجمل، وها هو هذا الجيل يحمل على عاتقه تطلعات وأحلام آبائه الذين سعوا ليكون للإنسان العُماني مكانة ودوراً يوازي إرثه الحضاري بعد عيشه سنيناً لم يكن يتحسس موقعه ولا يستشعر قدرته على إحداث فرقٍ كما نشاهده الآن، ولا بد من تكاتف الجميع لاستمرار هذه المسيرة والمحافظة على مكتسبات هذا البلد، وترجمة خطابات قائدها المُلهِمة كأفعال على أرض الواقع، فكان لا بد لذلك الليل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر كما يضمن أبو القاسم الشابي هذا المعنى البديع في أبياته، وكان لا بد من شمسٍ جديدة تسطع على هذه الأرض لتربط العُماني بجذوره العريقة نافضاً عن نفسه غباراً طال مداه، وهذا ما أبدته قيادة السلطان قابوس بن سعيد بأن استطاع أن يعيد للمواطن العُماني في هذا العصر مجده وهيبته الماثلة في كل كتب التاريخ، هذا القائد الذي أخذ بتلابيب الظلام ليزيحه عن طريقه، مُتسلحاً بسراج المعرفة والعدالة والإنسانية، سالكاً الدروب الوعرة من أجل شعبه، ليعيد لم شمل الشعب بخطابه الاستثنائي الذي وجهه لهم وهم منتشرون في الآفاق يناشدهم العودة لبناء وطنهم، ومن يرى ما آل إليه الحال في عمان يُدرك مدى سمو الأهداف التي حددها هذا القائد، ويوقن أن الخُطط التي رسمها والخُطى التي اتبعها في سبيل تحقيق تلك الأهداف لهي مدرسة سياسية ينبغي أن ينضوي تحت سقفها ويدرس مناهجها الكثير من ساسة اليوم، والذين إذا ما اتبعوا هذا النهج الفريد الذي تسير به السياسة العمانية، لنهضت الأمة من كبواتها المتتالية.. ولاستفاقت من غفلتها.

أيُّها العُمانيون، للحفاظ على مُنجزات هذه النهضة عليكم أن تنظروا لهذه المنجزات من خلال عقلية وطنية لا عقلية فردية، ويجب أن تُكملوا هذه المسيرة المباركة التي أضحت مسؤوليتكم ومسؤولية أبنائكم بعدما كانت مسؤولية آبائكم، فدوركم مُكمل لدورهم.. وحافظوا على نقاء الذهنية العُمانية الفريدة، حتى لا تتداخل لدى أبنائكم مفاهيم الانحراف الفكري وتختلط، استمروا في نهجكم، حافظوا على أصالتكم، مع استمرار تحرككم المرِن في هذا العالم المضطرب.

*رئيس لجنة الثقافة والتعليم بالاتحاد العربي الإفريقي للإعلام الرقمي