إلى وزيرة التربية والتعليم.. هذه الرسالة!

 

طالب المقبالي

جلست بقربي وقد اغرورقت عيناها بالدموع وهي تسرد قصة مسيرتها التعليمية في جامعة السلطان قابوس على مدى خمس سنوات قضتها في كلية التربية، قسم اللغة الإنجليزية.

تقول: تخرجت بتقدير جيد جدا ولله الحمد، أكملت حياتي كباقي الناس، تزوجت ورزقت بطفلة، لم أتخيّل يوماً أنّ حياتي الاجتماعية ستكون عبئا على حياتي الأكاديمية، ربما الآخرون لا يظهرون اهتماما واضحا للأمر وينتهزون كل فرصة تتاح حتى لا يخسرون الوظيفة، ولكن يبدو أنني اخترت أن أكون حالة خاصة تختلف عن بقية الناس.

مسحت دموعها وواصلت الحديث: بعد انتظار يقارب الثلاث سنوات بدون وظيفة، تلقيت اتصالاً يعلمني بوجود شاغر لي في إحدى المحافظات البعيدة، بل البعيدة جدا. ذهبت لإتمام الإجراءات حيث إنهم استعجلوني للأمر فقد كان ذلك في منتصف الفصل الدراسي وليس في بدايته. شعرت وكأنني في سباق من نوع ما، كان لدي أسبوعان لمباشرة العمل وإلا فإنّ الوظيفة ستطير. كان أكثر ما يشغلني هو إيجاد حضانة مناسبة لابنتي بالقرب من مكان سكني أو عملي هناك حتى أطمئن لكونها بجانبي، فالطريق إلى هناك لا يقل عن خمس ساعات في أقرب منطقة! وقد يصل لثماني ساعات في المناطق الأبعد، ولكن ببساطة لم يكن هناك حضانات. أول سؤال خطر على بالي هو كيف يتصرفن باقي الأمهات المغتربات؟ فسألت وبحثت، منهن من تركن أطفالهن عند جداتهم، وبعضهن، ربما المحظوظات منهن، وجدن حضانات منزلية بالقرب من مكان عملهن، أما القليل منهن فقد اخترن أخذهم للمدرسة معهن! ولكن بالنسبة لي للأسف لم أجد مكاناً بالقرب مني، ولم يكن باستطاعتي تركها لأنّ جدتيها لديهما من المسؤوليات ما يكفي، كما أنني لا أستطيع أن أحمّل غيري مسؤولياتي خصوصاً إن كان ذلك يفوق طاقاتهم.

لم يبقى لي سوى استقدام عاملة منزل والرضا بما سيكون من حالها مع ابنتي فلا حول لي ولا قوة، أو ربما كنت سآخذها معي للمدرسة بغض النظر عن القوانين أو غيرها، ففي النهاية اطمئناني وراحتي لوجود ابنتي أمام عيني هو جل ما أريده حتى أستطيع العمل بضمير مرتاح.

ذهبت لأسألهم إن كان بإمكاني أخذ إجازة لشهرين فقط بدون مرتب حتى تصل العاملة، ففي كل الأحول كان قد تبقى شهران حتى إجازة منتصف العام، وبإمكاني مباشرة العمل في الفصل الثاني، ولكن ذلك لم يفلح، ومن المعروف أن إجراءات استقدام العاملة لا يكفيها أسبوع واحد. حاولت كثيراً، تكلمت وبحثت وسألت ولكن دون جدوى، إلى أن جاء الرد من أحدهم هناك، "دعيها عند زوجة أحد المعلمين الوافدين وخلاص"، لم أكن أتوقع رداً كهذا! أو ربما بالغت في تخيّلي سهولة الموضوع وصدمت حين كانت هذه النتيجة، ومن هنا أعلنت نهاية المشوار.

عزمت الرجوع لبيتي وابنتي وحياتي، ليس تقليلا من شأن الوافدين، وإنّما لعلمي أنّ ابنتي لم تكن محل اهتمام أحد غيري، وأدركت أنّه من المستحيل أن يشعر بما أشعر به أحد، ولن يفهم مدى اهتمامي بأمرها أحد أبدا.

واصَلَت هي الحديث بينما ذاكرتي ذهبت به بعيداً حول تعيينات تمت حديثاً لمعلمات درسن في الخارج وتمّ تعيينهنّ بالقرب من منازلهن.

تقول: بدأت النظرات تتغير من حولي، ربما كنت في نظر الجميع "فاشلة" تخلت عن وظيفتها، متغافلين عن اليد التي تمسك بطفلتي وعيونهم على اليد التي كانت ستمسك براتب ومستقبل! كل من يراني يرمي بعبارات وكلمات قد تكون عادية وبسيطة من جهتهم ولكنها تطعن من جهتي، "ضيعتي فرصة"، "لو رحتي وخليتيها عند أمك أو أي حد"، "متى بتحصلي فرصة ثانية"، هكذا ببساطة ولأشهر عديدة، وكأني كنت سأقاسمهم راتبي!

مرت سنة وتخطيت الأمر، لا زلت في بيتي ولله الحمد، مرتاحة لقرب ابنتي مني وأهلي بجانبي لا أذوق مرارة الغربة ولا ينقصني شيء والحمد لله، ولكن هذه تجربتي وأتمنى إيصال رسالتي لمن يهمه الأمر من أمهات مثلي، عاملات وعاملين ومسؤولين.

إنني أتعجب من جميع الأطراف! كيف للأمهات العاملات المغتربات السكوت على وضع كهذا؟! مع العلم أن بعضهن يقضي ما يزيد عن الخمس سنوات من غربة لغربة! كيف للمسؤولين أن يغفلوا عن هذا الأمر ولا زالوا يرسلون أفواجاً من المعلمات هناك؟! كم كان سيكلف لو خصصت في كل مدرسة أو كل مؤسسة حكومية غرفة واحدة فقط مع استقدام 3 أو 4 عاملات لاحتضان أطفال الموظفات من الأمهات؟! أو ربما بناء ملحق قريب منها؟! ليس من أجلي فقط ولكن من أجل كل أم تذرف دموعاً وهي تترك طفلها لأسبوع أو اثنين، ولأجل طفل حرم من حنان أمه وفُطم في الشهر الثالث من عمره! ومن أجل جدات قد خان الزمن عظامهن وقوتهن، ولازلن يقمن بدور الأم من الصفر حين يربين أبناء بناتهن! ومن أجل كل شخص يحب أن يسير عمله وحياته بطريقة صحيحة سليمة لا يشوبها قلق وتفكير وتفكك، وكذلك من أجل كل مسؤول يسعى لراحة موظفيه لإنتاج أفضل.

***

هذه رسالة مباشرة أوجهها نيابة عن ابنتي التي رجتني ألا أنشر الحديث الذي دار بيننا، رسالة أوجهها لمعالي الدكتورة وزيرة التربية والتعليم للنظر في وضع ابنتي التي أنهت دراستها منذ أربع سنوات وبتقدير جيد جداً وما زالت تقبع في المنزل، كما لا أنسى التذكير بوضع زميلاتها المغتربات اللواتي قبلن العمل هناك رغم صعوبة الوضع.

 

 muqbali@hotmail.com