الغش الثقافي.. كُتاب لا يُجيدون الكتابة

د. سيف المعمري

مِنْ أَيْن يُمكن أن نَبْدأ مُحاربة الغش في حياتنا؟ هل بِبناء الوعي الثقافي؟ ماذا لو كانت الثقافة تعاني أيضا من الغش، فماذا نحن فاعلون؟ بهذه الأسئلة بدأ صديقي معي هذه القضية التي تتنامى في ظل تراجع الوعي الفكري؛ حيث يشعر البعض بشجاعة في طرق مجالات إبداعية معقدة مثل الكتابة، ويجد من يتواطأ معه في ذلك من خلال فتح فرص ومنابر له للوقوف مع آخرين في نفس المستوى، بل وأحيانا يَعْمل المتواطئ صاحب المنبر أو المتلقِّي على إقناعه بحقيقة هو الوحيد الذي لا يصدقها، ويحاول أن يقوده ليكون في مكانة لا تليق به؛ حيث يحاول أن يصنع منه كاتبا عنوة ليمرِّر من خلاله بعض الأفكار التي يريد أن يقدمها للجمهور، أو يحاول من خلاله أن يقدم كاتبا مؤثرا بأساليب ملتوية، ظنا منه أنه بذلك سوف يُزيح كُتَّابا آخرين قد لا يتفق معهم في الرأي، رغم أنه دائما يحاول أن يقدِّم نفسه على أنه مع تعددية الآراء وتنوُّعها، مُحاولا إيهام الآخرين، بعيدا عمَّا يقوم به من ممارسات تضر بالحياة الثقافية والإعلامية، التي تضج بكثير من الأعمدة الأسبوعية، متناسيا أنَّ مهمة المفكر -كما يرى إنطونيو جرامشي- "أن جميع الناس مفكرون، ولكن وظيفة المفكر أو المثقف في المجتمع لا يقوم بها كل الناس".

قال لي صاحبي مُنفعلا: لقد رضينا على مَضَض بأنْ ينشر تحت هذا الاسم مقالا أسبوعيًّا، وتقبلنا وجوده في هذه المجموعة بصفته إنسانا لا أكثر، وعانينا كثيرا لفك الطلاسم التي يضعها، والآراء غير المفهومة التي يُحاول أن يعلق بها بين الفينة والأخرى، ولكن لم يعد مُرضيًا أن يقدم لنا على أنه كاتب كبير من قبل المنبر الذي ينشر له، ولا أنْ يعمل كثيرًا على مُجاملته في مُحاولة لإفساد نقاء الكلمة التي تكتب، وتشويه قطاع يضم عددًا من الكُتَّاب الذين يشعرون أن لديهم مهمة ورسالة نحو مجتمعهم من خلال ما يقومون به من طرح للأسئلة العميقة والإشكاليات التي تعيق مشروع التنمية وصناعة المستقبل، والتي لا تُطْرَح فيما يوضع تحت هذا الاسم وغيره ممن وُضِعوا في هذا الموقف، وهم ليس لهم في الكتابة ولا الثقافة، ولكن ابتلوا لتنفيذ رغبات آخرين من أصحاب المنابر الذين كنا نأمل أن تكون منابرهم بوابات عصية على الغش الثقافي، ولكن خابت آمالنا، وما أكثر الخيبات التي نشهدها في ظل هذه الانحدار الذي تعيشه كثيرٌ من قطاعات المجتمع، وهذا ما يجعل الكتّاب الحقيقيين متمسكين بقلمهم من أجل إيصال الكلمة الصانعة للمجتمع وحياته.

إشكالية الغش الثقافي يُمكن أن نعرِّفها من جانب بأنَّها "أن تكون كاتبا ولكنك في الواقع لا تستطيع أن تكتب، وأن تجد منبرا ينشر لك وهو يعرف أنك لا تستطيع الكتابة، وأن تجد جماعات واعية تعرف من خلال حوارات بسيطة أنك لا تتمكن من تأليف عبارة مستقيمة الأركان، مفهومة المعنى"، فكيف بك أن تصبح كاتبَ عمود في مُجتمع مُتعلِّم يفترض فيه الوعي، ومع ذلك يتواطؤون معك من خلال صمتهم عما تقوم به، ولا تقديمهم النصح للمنبر الإعلامي الذي يمارس هذه العملية غير الأخلاقية في تزييف وعي المجتمع، وإفساد ذائقته الفكرية، وتهيأته لتقبل مثل هذه الممارسات في حياة ثقافية مشحونة بالإشكاليات، تُعَاني ضعفا في المنابر والبُنى الأساسية والتشريعات والتسهيلات!! ما الغاية التي يَسْعَى من ورائها هؤلاء؟ هل هي غاية نبيلة تقوم على بناء الوعي الإنساني وتحفيزه على الموضوعية، وعلى رفض أن تكون الحياة الثقافية عُرضة لمثل هذا التزييف ودخول أفراد فيها بإنتاج ليس إنتاجهم؟ أم هي غابة لصناعة أفراد آخرين تقدم تحت أقلامهم قضايا غير جوهرية؛ ولا تمثل أولويات في معالجة إشكاليات التنمية؟ ولكن ألا يجدر بهؤلاء أن يستعينوا بأفراد لديهم قدرة على إقناع الآخرين بالفعل في نقاشاتهم العامة بأنهم قادرون على الكتابة، ولكن ما يحدث أنَّ المجموعات الحوارية تكشف ضَعْف هؤلاء، فماذا يُمكن أن نسمِّي هذا؟ أحاول أنْ أبْحَث عن صفة مُخفَّفة لوصف ذلك، ولا أجد صفة إلا أنَّها محاولة إمَّا "لاستغفال جمهور القراء"، أو محاولة منهم هم لتصوير أنفسهم على أنهم "مُسْتَغلفين"؛ من أجل تحقيق مصالح معينة مع أصحاب المقالات أو المنابر التي تنشر لهم.

كَيْف نستطيع أن نحُد من هذا التوجُّه لتشويه الحياة الثقافية؟.. سؤال يدور في ذهن صديقي الغيور على ما يجري، ويذهب إلى أبعد من ذلك؛ حيث يقول إنَّ الجميع طالب بالحد من الغش التجاري؛ حيث أنشئت هيئة حماية المستهلك، ولكن ماذا عن الغش الثقافي الذي يجري في صمت لا أحد يكترث له؟ هل يمكن تأسيس هيئة له؟ قلت له تلك فكرة حالِمَة جدا؛ فالثقافة والكتابة ليست قطاعا قويا حتى يعمل القائمون عليه على العمل للحد من هذا الإسفاف واللامبالاة التي يعبر عنها البعض، من نجازي؟ هل الكاتب الذي رَضِي أن يُقدِّم نفسه كاتبا بكلمات كتبها له آخر، أم نجازي المنبر الذي رَضِي أن ينشر له، وضخَّم بداخله شعور الكاتب رغم علمه بأنه ليس بكاتب؟ أم نجازي المجتمع لأن مثل هذا الغش ولد من تدهور قيمي جماعي يزين فعل الغش لمرتكبيه، وتسمح البنى الاجتماعية لأمثال هؤلاء بالوقوف دون شعور بالخجل أو الذنب لما يقومون به؟!