هل تتغير المفاهيم الفكريّة؟

عبد الله العليان

لا شك أنّ بعض المفاهيم والمصطلحات الفكرية، ربما تتغير مع القِدم حيث يتم إسقاطها على وقائع وممارسات في حياة الأمم والشعوب، تفارق مفهومها القديم، وتتلبس بمفهوم آخر، أو ربما نتيجة ترجمة هذا المفهوم مختلفاً عند بعض الثقافات والحضارات الأخرى، فمثلاً مصطلح الاستبداد في التراث العربي الإسلامي لم يكن له ذلك المضمون السلبي كما هو في المرجعية الغربية، ولا يتقارب معه بشكل من الأشكال فقد كان "الاستبداد" كمضمون في القاموس العربي الإسلامي، كما يرى د/ محمد عابد الجابري: "يعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه. ومن هنا تلك العبارة الشهيرة: إنّما العاجز من لا يستبد"، هذا هو معنى الاستبداد في المرجعية العربية خصوصاً عندما يقرن بـ "العدل". فالعدل يفقد مضمونه مع العجز عن تطبيقه. أما الاستبداد من دون عدل فكان له اسم آخر في المرجعية العربية وهو "الطغيان".

وقد جاءت مقولة "المستبد العادل" في إشارة إلى سيرة الخليفة عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه) في الحكم والإدارة، ولكنها جاءت هذه المقولة محرفة عن معناها بحيث لا تعبر عن المفهوم الذي أشرنا إليه آنفاً، وهو الحزم" و"عدم التردد في اتخاذ القرار" وإنما بمعنى الاستبداد وفق المفهوم الغربي وهو الانفراد بالرأي والسلطة دون أن تكون هذه السلطة خاضعة للقانون ودون النظر إلى رأي المحكومين.. إلخ:
فكيف انتقل هذا المفهوم "الاستبداد" بمضامينه وحمولته الفكرية الغربية إلى المفهوم العربي الإسلامي؟ ومن هو قائل هذه العبارة؟ وهل قصدت عبارة المستبد العادل بمعناها الغربي بتلك المضامين السلبية؟

انتقلت مقولة الاستبداد في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بين الإصلاحيين الإسلاميين من خلال بعض كتابات ومقالات مختلفة ومن هؤلاء عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد)، وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده من خلال مجلتهما مجلة "العروة الوثقى" التي كانت تصدر في باريس ويورد د/ إمام عبد الله الفتاح إمام أن مقولة "المستبد العادل" انتقلت من أوروبا إلى الشرق.. فالحل الذي ارتآه جمال الدين الأفغاني لمشكلات الشرق إنما هو "المستبد العادل" الذي يحكم بالشورى وقال ما نصه:" لن تحيا مصر، ولا الشرق بدوله، وإماراته، إلا إذا أتاح الله لكل منهما رجلاً قوياً عادلاً يحكمه بأهله على غير تفرد بالقوة من الحاكم. وهذه المقولة التي قالها الإمام جمال الدين الأفغاني لا تعني أنه أيّد الاستبداد بمضامينه المعروفة، إنما في اعتقادنا قصد الحزم والقوة والعدل في ظل الظروف التي يعيشها العالم الإسلامي في فترة تكالب الدول الاستعمارية للسيطرة عليه. فهذا القول لا يؤكد أنه يؤيد الاستبداد السلبي بمفهومه الديكتاتوري المتسلط.
كما أورد الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه "المشروع النهضوي العربي.. مراجعة نقدية" أنّ الشيخ محمد عبده تحدث عن نموذج "المستبد العادل" وقال ما نصه: "إنّما ينهض بالشرق مستبد عادل" مستبد "يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرناً".
الواقع أن مقولة "المستبد العادل" التي قالها الشيخ محمد عبده أو الحاكم القوي العادل التي قالها جمال الدين الأفغاني في مناسبة واحدة فقط لا تعبر عن موقف ثابت من مسألة الاستبداد من هؤلاء الإصلاحيين المسلمين، حتى وإن كان مفهوم الاستبداد الذي قصداه يتوافق مع مفهومه في الغرب ولربما جاء قبل أن تتكشف لهما الآثار الوخيمة للاستبداد، أما إذا كان مقصدهما الاستبداد بمعناه العربي الإسلامي كما أشرنا فإنّ المسألة واضحة وتتقارب مع ما طرحاه في كتاباتهما ومقالاتهم الإصلاحية. وهذا أيضاً لا يستقيم إن كانت الإشارة للمستبد العادل قصد بها سياسة اتبعها الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وهذا ما يعد مخالفاً لسياساته ومواقفه وأعماله العظيمة في الشورى والعدل والمواقف الإنسانية الأخرى التي تخالف مفاهيم الاستبداد وتطبيقاته العملية. ولنا وقفة مع بعض المواقف التي سنأتي عليها لاحقاً، والأجدر بنا أن نتجول قليلاً في كتابات الإصلاحيين الإمام جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده حتى يمكن أن نتعرف على مضامين رؤيتهما لقضية الاستبداد ومخاطره على الأمّة والنهضة والتقدم. فقد كتب جمال الدين الأفغاني في مجلة العروة الوثقى العديد من المقالات هاجم فيها الاستبداد هجوماً عنيفاً واعتبر أنّ الاستبداد أساس بلاء الأمّة وشقائها ومما قاله "إنّ الأمة التي ليس في شؤونها حل ولا عقد، ولا تستشار في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعة لحكم واحد إرادته قانون، ومشيئته نظام، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، تلك أمة لا تثبت على حال واحد، ولا ينضبط لها سير". ويعلق د/ عبد الإله بلقزيز على طرح الأفغاني بقوله: "إن نقد الاستبداد في الفكر الإصلاحي الإسلامي الحديث جرى الاعتناء في الأولى بالكشف عن جذور هذا الاستبداد في أزعومة الحق الإلهي، التي قامت عليها فكرة السلطة الدينية في الإسلام، وكان الاستذراع بها من قبل الحكام طريقا لهم إلى إطلاق يدهم في الدولة وحقوق الرعية. أما في الثانية، فجرى الانصراف إلى تعيين أشكال الاستبداد السياسي المختلفة، والكشف عن نظامه أو عن نمط اشتغال آلياته بلغة عصرنا".

إذن المفاهيم والمصطلحات ربما يحصل لها الاختلاف والتمايز عندما تقترب الثقافات من بعضها البعض، وهذا يجعل البعض يتهم ثقافات أخرى بأنّها تُرسِّخ بعض الأفكار التي تجنح للتوتر والاضطراب والقمع، ومنها مقولة الاستبداد.