ضريبة الرأي الآخر!

 

 

هلال الزيدي

كَتَب أحدُ الكُتاب ذات مرة مَقَالا أوغل في الوصف والتفنيد والأطر التي تتشكل منها منظومة الفساد، ومُفسِّرا بأنَّ آفة الفساد وانتشارها سيكون مؤثرا على المجتمع بأكمله وعلى أجيال قادمة، ومعرجاً في تشخيصه إلى دور الجماعة/الفرد في تغذية هذه الآفة، وجعلها راسخة في مختلف البيئات؛ مما يتطلب الوقوفَ على ترسيخ النزاهة في التعاملات البشرية، وقد انطلقَ ذلك الكاتب من مبدأ دقِّ ناقوس الخطر وبحسب الدور الإعلامي الذي تشرب به؛ حيث إنَّه من الواجب أن يبني المجتمع حائطَ صدٍّ يُنهي عهد تلك الآفة أو يقلل من استفحالها.

ومن الطبيعي أنه لم يتجاهل -أي الكاتب- الخسائر التي سيتكبدها المجتمع تحت إطار مؤسساته المختلفة، مطالبا بأنْ تتحرك بنود القانون لتفعيل موادها ووضع حد فاعل وعقوبات صارمة تجاه من تسوِّل له نفسه استغلال منصبه أو ماله من أجل المصلحة الذاتية، كما أكَّد المقال كذلك على الضرب بأيد من حديد حتى يتمكَّن "الكيان" من إيجاد رادع قومي لا يمكن من بعده تبديد مقومات الأوطان.

وفي صبيحة نشر المقال، تفاعَل المجتمعُ عبر مُختلف الوسائل حيث لاقى المقال انتشارا واسعا، مع تبني الكثيرين لما جاء به؛ مما جعل منه الكاتب الإحساس بجوهر القضية التي طرحها، إلا أن هناك من عدها تجنيا على أصحاب المناصب لزعزعة التقارب المجتمعي، وذهب آخرون إلى تقويض الدور الإعلامي الذي يجتهد في البحث عن الشفافية من منطلق حرية الفكر، لذلك استخدموا أذرعهم حتى يكون ذلك "الكاتب" عِبْرَة لمن يحاول أن يصف ذلك "المجتمع" بأنه فاسد.

بَيْنما الآراء تتضارب وتتضاد في تلك الأطروحة، ينزوي "الكاتب" في مكتبه لمتابعة أعماله في تلك المؤسسة، وما هي إلا دقائق حتى يصرخ هاتف مكتبه معلنا عن النذير القادم.. فيرفع السماعة، وقبل أن يُرحب بالمتصل ويتجاذب معه أطراف الحديث يأتيه صوت "المنسق": فلان مطلوب وبسرعة في مكتب "معاليه"، هنا تذكر "الكاتب" أنه ومنذ التحاقه بتلك المؤسسة وعلى الرغم من عطائه في عمله لم يتلق أي اتصال أو طلب من رأس الهرم، فيغلق سماعة الهاتف ويسند ظهره قائلا: ماذا يريد "كبيرنا الذي علمنا الأمانة والنزاهة؟ هل يريد أن يشكرني ويجزل لي العطاء؟ أم ماذا؟".. هنا يخطف مفكرته ويتوشح قلمه ويذهب، والأسئلة تحاصره.

على عتبة باب "معاليه" يقف ليأخذ الإذن من المنسق، فيعاجله: انتظر ريثما ينتهي معاليه، فيقوده إلى قاعة الانتظار ليبدأ مسلسل الأفكار لديه، وبينما هو يتجهز للرد والتحاور يأتيه الإذن بالدخول، فيدخل إلى تلك المملكة التي تربع عرشها ذلك "الإنسان"، فيجده مُنكباً على الصحيفة؛ هنا بدأ في فهم هذه الدعوة.

بعد التحية والسلام، وقبل أن يسند ظهره على ذلك الكرسي الجلدي الناعم، يباغته "الكبير" بنظرة حنق وغضب شديدتين، قائلاً: ما هذا الذي فعلته؟ لم تجد موضوعاً تكتب عنه إلا الفساد! قل لي: "كل هذا العطاء والتقدم والإنجازات لم يُثِر فضول قلمك؟ فقط تبحث عن الاختلاف لتحقق الشهرة، هيهات أن تبلغها لمجرد اتهامات لا مصداقية لها"، هنا يحاول أن يوضح  "الكاتب" وجهة نظره قائلا: معاليك. إلا أن صوت "معاليه" يعلو: أنت هنا لتسمع ما أقول، وليس لتعرض ما لديك. هنا تتَّضح لديه المسألة فيلزم الصمت، لتأتيه القذائف الواحدة تلو الأخرى: "عليك أن تتأكد أن كتاباتك لا يُعيرها المسؤولون اهتماما، ألا ترى ما يحدث في المنطقة من أحداث ومشاكل، وكلها بسبب ما تأتي به أقلامكم، لا نريد أن ننشر احتقانات؛ فالمنطقة على شفا جرف هار، عليك أن تنظر لنفسك، لديك وظيفة وراتب واستقرار، وكل شيء على ما يرام، فلماذا لا تشكر؟! لقد أفسدت عليَّ صباحي عندما بلغني مقالك، نحن نعلم أنك لم تُشر إلى مُؤسستنا هذه صراحة، إلا أنك تقصدها بسبب ثلة من الذين تزيد لديهم الحساسية في توزيع المناصب، وهذا ما أكده لي المقربون مني الذين يخدمون صباحا ومساءً، تأكد أننا نختار الأنسب وليس الأفضل.. قل لي كم عدد الاشتراكات التي ندفعها لتلك الصحيفة التي تكتب بها؟ هل تريد أن نوقفها؟ هل تريد أن تعرف ما هو الفساد؟ الفساد هو إثارة الرأي العام بهذه المصطلحات وإشغالنا بها.

فطفق ذلك المسؤول في كَيْل الاتهامات والتحذيرات للكاتب حتى أزبد وأرغى، وفي النهاية، قال له: "لقد ضيعت وقتي ووقت المواطنين، سأحاول أن أُنهي الموضوع مع المسؤولين الآخرين، وعليك أن لا تعيد الكرَّة والكتابة في مثل هذه المواضيع، وإلا ستعرف كيف نستطيع أن نوقفك.. انتهى وقتك".

خرج ذلك الكاتب من تلك المملكة مبتسما ليلقي التحية على المنسق قائلا له: كم أنت محظوظ! وذهب.. تلك حادثة ربما هي من نسج الخيال أو حقيقة تقع في مجتمعات كثيرة، لذا عزم ذلك الكاتب على التمسك بمبادئ الكتابة فكتب مقالا عنونه: حتى لا يغضب "س" من المسؤولين.

العبرة: لربما هناك من يغضب مما يكتبه الكتاب إذا أثقلوا عيار النقد، وهناك ممن يجد فيه الحياة من جديد؛ فالكاتب يقع بين سندان العامة ومطرقة المسؤول؛ ومع ذلك فهو يتحمل تلك الضربات حتى تسمو الكلمة ويكون للرأي رأي آخر.

---------------------------------

همسة:

قال د. صالح الفهدي: "لو خُيِّرتُ بين الكتابةِ ورغيفِ الخبز لاخترتُ رغيفَ الخبز؛ لأنه أنفع لأبنائي، رغم أنني سأخلف قلباً خاليَ النبضات!".. فتلك هي ضريبة الرأي الآخر.

abuzaidi2007@hotmail.com