نحو مفاهيم أكثر انفتاحاً (7)

الفعلُ بدلاً من التنطّع

 

 

د. صالح الفهدي

بعد صدور كتابي"قيم معطلة في المجتمعات العربية" دعتني إحدى الجامعات للحديثِ عن مضمون فكرة الكتاب، وقد كانت حول الانفصال والانفصام الملحوظ بين العبادةِ من جهةٍ والسلوك والأخلاق من جهةٍ أُخرى لدى الشريحة الأغلب من المُسلمين خاصّة العربَ منهم..! وما أن انتهيتُ من استعراض الفكرة حتى قامَ لي مُعلِّم عربيٌّ متحدِّثاً بانفعالٍ شديدٍ، رافعاً عقيرته باستنكارٍ واستهجانٍ: من هذا محمد عبده الذي تنقل عنه مقولته؟ (يقصدُ الإمام محمد عبده الذي زار فرنسا أواخر القرن التاسعِ عشر وقالَ مقولته المشهورة: وجدتُ الإسلامَ ولم أجد المُسلمين)، أكالَ هذا المُعلّم الغاضب الشتائم والسبابَ إلى الغرب قائلاً: الغربُ فيه انحلالٌ وفسقٌ وبغي، وهنا القوّة، هنا كلمةُ لا إله إلا الله، فصفّق له طلاّبه المتحمسون لخطابيته الراعدة، وصريخهِ المدويِّ ..!!. استأذنَ مني مُساعد العميدِ بإشارةٍ منه كي يتكفّلَ عني بالردِّ عليه، فقامَ وردَّ عليه بعقلانيةٍ، ومنطق دون هديرٍ ولا ضجيج..!

إنَّ الإمام محمد عبده لم يقل مقولته تلكَ ليُعلي قوماً على قومه المُسلمينِ وهو الرجلُ الحصيفُ الحكيمُ وإنّما رأى في الغربِ إتقانُ الصانع لصنعته، وإخلاصُ الموظف لوظيفته، وانضباطُ العامل في وقت عمله، وحفاظ المؤتمنِ على أمانته، وغير ذلك من قِيم الإسلامِ الذي سنَّ شرائعه لإحيائها، وجعلها منهجاً للبشر في حياتهم اليومية.

لكن خطابَ هذا المعلّم هو الذي أعمى بصيرة الأمّة كي لا ترى عيوبها، بل وتحاربُ كل من (يتجرأ) فينبهها إلى مثالبها، وعوارها، أو تخفيه من الأرضِ كي لا يسمع هسيس صوته..! هذه الخطابية المتّقدةُ حماسةً مفرطةً، اتخذت متاريس للدفاع عنها دون أن تمهّد طرقاً لعقولها من أجل تتبّع الأسباب التي أدّت إلى تقدّم الغير وتأخرها في كل مناحي الحياة..!

خطابيةٌ لم تتفكر في الأسباب التي تجعلها "خير آمّةٍ أُخرجت للناس"، ولا بالأحاديث الشريفة التي ينذرُ فيها الرسول الأكرم الأجيال القادمة من أمّتهِ الانحرافِ عن جادّة الطريق، ولم تقف لتتساءل ناقدةً ما هي أسباب تأخرنا وتقدّم الغير وماذا فعلنا بالقوّة التي بين أيدينا..؟

خطابيّة رفعت عقيرتها بـ "لا إله إلا الله" ولكنها لم تمعن العقل والبصيرة في الحديث الشريف"الإيمان سبع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق والحياء شعبةٌ من الإيمان".. لم تتمعن في أنَّ هذا الحديث يتضمنُ ثلاث جوانب: روحية (التوحيد)، وسلوكية (إماطة الأذى)، وخُلقية (الحياء)، وإنما اكتفت بترديد شهادة التوحيد مجرّدةً دون عمل، وهي شهادةٌ لا تغني المسلم إن لم يتبع اشتراطاتها السلوكية والخلقية، ولهذا جاءَت الرسالة المحمدية لإتمام مكارم الأخلاق (الإيمانُ ما وقرَ في القلبِ وصدّقهُ العمل) حديثٌ شريف.

لقد وقفنا جامدين نقرأ القرآن دون أن نتمعن عميقاً في سياقاتهِ المرتبطة بالوجود الإنساني، وسنن الكون المنضبطةِ بدقّة، لهذا توقّف عندنا تفسيرُ القرآن اعتماداً على مفسرين قدماء عاشوا في فتراتٍ تاريخيّةٍ بعيدة، في الوقت الذي يشهدُ فيه العالم ثورةً عظيمةً في أنماطِ المعيشةِ، وفي اكتشافاته العلمية، وفي فتوحاته المعرفية.. تمرُّ علينا تفاسير لآياتٍ نشعرُ بأنَّها لا تتفق مع سياق النصِّ القرآني المفتوحِ على الزمانِ والمكان، فنسألُ أنفسنا: أينَ هي التفاسير الحديثة للقرآن الكريم المبنية على هذه المعطيات الحديثة، والقائمة على لغة عصرية ذات ارتباطٍ بحياةِ الناس، ومفاهيم هذا العصر؟!

لو سألنا أنفسنا دون تنطُّعٍ لماذا "يَنْصُرُ اللهُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً "لاكتشفنا السرِّ وراء تقدّم الغرب وغيره من الأمم العظمى، وتأخّر أغلبُ الدول الإسلامية..!

السرُّ هو أن لله سنناً وقوانين في كونهِ يسيرُ وِفْقَها ولا يختلُّ عنها، ولا ينحرف. هذه السنن والقوانين جاريةٌ على كل شيءٍ مخلوق فيه إن هو اتبعها وتوافق معها سعد، وإن هو عارضها وانحرفَ عنها شقى..! وهذا هو المعنى العميق لقوله سبحانه وتعالى "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ[الرعد:11] أي أن القومَ (شعوباً وأمماً ومجتمعات) إن لم يتوافقوا مع سننِ الله في الكونِ وقوانينه التي وضعها في الحياةِ فإن الله لن يغيّر فيه شيئاً، لأنه ألهمه نفساً فيها الفجور والتقوى، أي الضلالة والصواب. ولقد أهدى الله للأمة المسلمة مفتاح السرِّ فلم يعرفوا قيمته وأضاعوه، لهذا ضلّوا عن طريق التقدّم؛ هذا السرّ هو "اقرأ" أول كلمةٍ نزلت في القرآن الكريم، وهي أول مفاتيح البناءِ الحضاري للأمم.. الأمم التي لن تستطيع بناء حضارة متقدّمة دون معرفة، وحين عرف المسلمون قيمتها لم يستنكفوا عن ترجمات العلوم من ثقافات أُخرى، ولم يترددوا في نقل المعارف والآداب والفلسفاتِ والفنون من حضارات بشرية عامرة، لكنهم في اللحظة التي نطق فيها قائلهم كما نطق في وجهي ذلك المعلّم العربي "هنا القوة.. هنا كلمة لا إله إلا الله" أصابهم الغرور من أنهم يملكون القوة، وهي قوة روحية بلا شك لكنها تحتاجُ إلى عمل، إلى برامجَ شاملةٍ، إلى فهم لنسق الكون، وسنن الوجود، وقوانين الحياة لكي تتناغم معها هذه القوة الروحية، فتشكّل قوةً عظيمة تفوق كل قوّة بشريّةٍ على الأرض.

ولو كانت القوة تقتصرُ على الإيمان العقدي شفاهةً لما رجّح الإسلام كفّة العاملِ على المتعبّدِ دون عمل، وأجابَ المتوكّل بما دعا دون أن يسعى إلى الأسباب..!

الذي حدث أنَّ الغرب قد أخذ هذا المفتاح "اقرأ" من المسلمين بعد عصورٍ من الظلامِ والتخبّط والاستبداد الديني، ليتبع بها السنن والقوانين الربانية في الأرض ليبدأ بها نهضته الأوروبية الحديثة، تنقصه في ذلك القوة الروحية التي ظلّت نقيصةً فيه يبحثُ عنها بعضُ أفراده، ويشعرُ بفقدانها أغلبهم (إحدى النساء الإنجليزيات قالت لي: إننا لنحتاج إلى دينٍ مثل دينكم)..

تقدَّمَ الغربُ – ومن حذا حذوه -إذن لأنّه عرف أن لله سنناً وقوانين في الكون وعلى كل من يريدُ أن يحصل على نتائجَ باهرةٍ أن يتبع هذه السنن إذ لا يمكنُ لأمة أن تنعمَ بعيشٍ كريم في ظل استبدادٍ وظلم، بل إن السنة الإلهية تقتضي العدل السياسي والاجتماعي، والعدلُ يقتضي النزاهة والشفافية والمراقبة والمحاسبة. ولا يمكنُ لأمّة أن تحقق كسباً في العلوم، وتقدماً في الاقتصاد إلا أن تفسح المجال الواسع للبحث والكشف المتواصل، وتشجع المبدعين وتحفّز المفكرين، وتنفق على الباحثين، ولا يمكن لأمةٍ أن تنشر الأمن والوئام بين شعبها إلا بمحو العنصرية، ونشر المساواة، ولا يمكن لأمة أن تزدهر اقتصادياتها، وتنتعشَ أحوالها إلا بمكافحة الفساد، ونبذ المُحاباة، والتخلي عن الواسطات، وتقديم الكفاءات، وتمييز القدرات.

وفي الوقتِ الذي أدركَ فيه الغربُ هذه السنن الإلهية في الكونِ واتبعَ قوانينها، شابَنَا نحن الانفصال والانفصام بين عباداتنا الشعائرية وعباداتنا التعاملية، فأنتجَ ذلك إشكالاً بعيد الأثرِ لا تزال الأمّة الإسلامية عامّةً والعربية خاصّة تعاني منه..!

خلاصةُ الأمرِ أنه بدلاً من تبنِّي الأمّة لمفهوم القوّةِ الروحية فإنّ عليها أن تعلمَ اشتراطات تفعيل هذه القوّة لتكون منهجاً ملموساً، وتوقنَ تمام اليقين بأنّ الله قد أوجدَ سنناً ونواميس لا يمكنُ تجاوزها من أجل تحقّق الأسباب، هذه جميعها تلخصها قصّة الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم إن كان يترك راحلته ويتوكّل، فردَّ عليه المصطفى عليه السلام: بل اعقلها وتوكّل.

وما فعلته الأمّة الإسلامية هو أنها توكّلت ونسيت أن تعقلَ الراحلة (أي توثقها برباط حول شجرة) فسرحت راحلة الأمّة في متاهاتها، حيث لم تعثر عليها الأمّة الإسلامية حتى اليوم.. الراحلة هي رمز للحضارة، إذ ودّعتها الأمّة فخرجت من دائرة الحضارة كما يرى مالك بن نبي بعد مرحلة الموحدين أو المرحلة التي انتهى فيها الإبداع واستسلمت الأمة لغرائزها، واستهلكت فيها مكتسباتها وضاعت منها وافزها النفسية ومبررات وجودها.