صوم العابثين (3)

 

عيسى الرواحي

 

ينتصف الليل ويقترب من ثلثه الأخير في أعظم أوقات إجابة الدعاء خاصة في العشر الأواخر من الشهر الفضيل التي فيها ليلة خير من ألف شهر من قامها إيمانا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، وفيه يشد الصائم مئزره ويوقظ أهله ليقوم الليل متهجدًا عسى أن يبعثه ربه مقاماً محمودًا (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) (79 الإسراء).

نعم هذا حال كثير من الصائمين ينطبق فيهم قول الله تعالى (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (السجدة 16) وبالمقابل فهناك مشاهد لعبث الصائمين لازمتهم من أوله وحتى هذه الليالي العشر المُباركة، فأمام مقاهي الشيشة المنتشرة في أماكن مختلفة تقف سيارات كثيرة يتسمر أصحابها داخل تلك المقاهي ساعات طويلة، يرشفون تلك الأدخنة التي حرمها الشرع الحنيف وحذر منها الطب الحديث، ثم يعودون إلى بيوتهم في منتصف الليل أو آخره وقد أعياهم طول السهر وضرر الشرر بعد أن أهدروا الوقت والمال والصحة، وهكذا سائر شهرهم يمسكون عن الحلال في نهار رمضان كونهم صائمين، ويفطرون على الحرام كونهم عابثين.

وآخرون يتحلقون مجموعات يزيد أفرادها وينقصون، فيسهرون على ألعاب متعددة وتسليات منوعة يطغى عليها قبح الكلام وبذاءة اللسان، فيبيتون عليها قعودا وقياما؛ رغبة في تسلية النفس وقتل الوقت حتى يحين وقت السحور في آخر الليل، فيودعوا أقرانهم، على نية اللقاء مجددًا في ليلة أخرى مباركة من هذا الشهر المُبارك، وعبث مشين من عبث الصائمين.

وهناك من يكون سمرهم على شاشات التلفزة أو الأجهزة الأخرى فيما لا نفع فيه ولا فائدة منه وإنما الضرر والخطر، وليس ضرره في إضاعة الوقت فحسب، وإنما في مضامينه وما يجلبه لصاحبه من كسب المعاصي والآثام مما يرتكبه السمع والبصر والفؤاد.

وواقع المساجد في الليالي الأخيرة من رمضان مختلف عما كان عليه في لياليه الأولى؛ فقد تناقصت الصفوف وقلت أعداد المصلين رغم أن مزيد الفضل وعظمة الأجر والثواب في هذه الليالي الأخيرة، فهناك من سئم الركوع والسجود بأداء صلاة التروايح في تلك الأيام القليلة المعدودة، وهناك من صار مشغولاً بأمر الأسواق التي ازدحم قصادها، وضاقت طرقاتها، وامتلأت محلاتها، وليس العبث في ارتيادها بقدر ما يتجلى فيها من مشاهد عبثية أخرى لا تشعرك أنك في أعظم الليالي وأقدس الشهور.

ويا ترى كيف سيكون حال هؤلاء أصحاب تلك المشاهد وأمثالها في نهار الصيام؟! خمول وكسل إن كانوا في مقر أعمالهم، أو نوم عميق إن كانوا في منازلهم. وما حظ الصائم إذا كان يقضي ليالي رمضان في لهو ولعب، ونهاره في نوم وخمول وكسل؟! وما علاقته بالقرآن الكريم وسائر الطاعات في هذا الشهر الفضيل؟! وإلى متى سيظل أمثال هؤلاء على العبثية والعشوائية في هدر الأوقات، وتضييع الفرص والتقصير في استغلال مواسم الخير والطاعات؟!

سيرحل رمضان عمَّا قريب، وفيه من صامه حق الصيام وقامه حق القيام، فنال مرضاة الله تعالى ورضوانه، وهناك من الصائمين من كان حظهم منه الجوع والعطش، وإنه لجدير بكل فرد أن يراجع حساباته، ويقوِّم سلوكياته، وينظر أين موقعه من قائمة الصائمين، ومن أدرك رمضان هذا العام قد لا يُدركه العام القادم، سائلا الله تعالى أن يتقبل صيامنا وقيامنا وصالحات أعمالنا، وأن يجعلنا من عتقائه من النار في هذا الشهر الفضيل إنه سميع مجيب.

 

issa808@moe.om