"مواطنة غَزِيَّةَ".. الغواية بالجملة والرشد بالتجزئة

 

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

للشاعر العربي دريد بن الصمة أبياتاً قالها في رثاء أخيه عبد الله، وهي نفس الأبيات التي يُمكن أن تُقال في رثاء حالة المواطنة في المنطقة الخليجية، حيث لا وجود لمواطن مستقل لأنَّ ذلك الاستقلال يمثل تمردًا لا أخلاقيًا في مجتمعات تقدس الوحدة والتناسخ حتى في الخطأ والغواية، بمعنى آخر لابد أن يكون الفرد متعصباً لبني جلدته في كل الأحوال والأوضاع، يقول هذا الشاعر:

أمَرْتُهُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى *** فلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلا ضُحَى الغَدِ

فلمَّا عَصَوْني كنْتُ منهُمْ وقد أرَى *** غِوَايَتَهُمْ وأنَّني غيرُ مُهتَدِ

ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ *** غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ

لقد لخَّص دريد مبدأ المواطنة وقاعدتها التي تتأكد خلال هذه الفترة بقوة وهي ألا وجود لمُواطن يمكن أن يستقل برأيه أو بشعوره القلبي تجاه ما يجري، لأنَّ ذلك الاستقلال يعبر عن "خيانة وطنية" حتى وإن كان ما يجري هو غواية يمكن أن تترك آثاراً سلبية على الجميع على المدى القريب والبعيد.

وهو تأطير لا يُعبر عن قيم المواطنة وحقوقها والتي يأتي في مُقدمتها حرية الرأي، والتعبير عنه سواء بشكل فردي أو بشكل مؤسساتي، والتي تؤكد عليها مختلف القوانين والدساتير الحديثة، لكن كما يرى البعض فإنَّ مجتمعات المنطقة لم تصل إلى إرساء رابطة المُواطنة كأساس لقيام الدول الحديثة حتى تتنكر لقيمها وحقوقها اليوم في هذه الأزمة، وحتى تنهار كل خطابات العقود الماضية حول دولة المؤسسات والقوانين وحقوق الإنسان في بداية هذه الأزمة، أو يتم تجاهلها وكأنَّها لم توجد. ويتساءلون هل بالفعل صدَّق بعض أبناء المنطقة الوهم الذي كان يزرع في عقولهم، حيث وجدوا أنفسهم أول من يتم تهديده في حالة الأزمات، يهدد إن لم يؤمن بمواطنة "غَزِيَّةَ" وهي أن تكون جزءا من مجموع إن أخطأ لابد أن تخطئ، وإن خاصم لابد أن تُخاصم، وإن زين الباطل لابد أن تزينه، وإن لمع الصدأ لابد أن تلمعه، وإن كذب الحقيقة لابد أن تكذبها، وإن صدق الوهم لابد أن تصدقه، وإن أدان الضعيف لابد أن تُدينه، وإن برأ الشريف من سرقته وفساده لابد أن تُبرئه، وإن صمت الناس لابد أن تصمت، يجب أن لا يكون لك كمواطن رأي إلا الرأي الذي تجمع عليه "غَزِيَّةَ"، بذلك يصبح الفرد مواطناً صالحاً، أما الخروج عن حالة الإجماع حتى وإن كانت على خطأ فذلك يُخرجك من حالة المواطنة أياً كانت توصيفاتها، لذا نحن أمام مرحلة يُعاد فيها تعريف مصطلحات حولها إجماع إنساني لكي تتلاءم وحالة الاستقطاب التي تعيشها دول المنطقة، ولكي تتلاءم والفكر الذي تؤمن به غَزِيَّةَ.

غَزِيَّةَ اليوم ليست غَزِيَّةَ حين كان يقف دريد بن الصمة على مضاربها ويصدح بهذه الأبيات، غَزِيَّةَ اليوم تختلف في تكوينها والروابط التي تجمع أفرادها، والسؤال الذي يطرح في ظل ما يجري حاليًا هل اختلفت غَزِيَّةَ بالفعل في جوهرها عمَّا كانت عليه قبل كل هذه القرون؟ حيث تحولت من مجرد قبيلة إلى دول حديثة تعيش في القرن الحادي والعشرين، هل اختلف دور فرد القبيلة عمَّا كان عليه في عهد دريد بن الصمة، حيث أصبح يحمل لقب مواطن وحظي بالتعليم، وانفتح على عالم يتكلم كل يوم عن الحقوق والحريات، والديمقراطية، والمجتمع المدني، والرأي والرأي الآخر، والمؤسسات، والشورى وغيرها من الكلمات الكبيرة التي خيل للبعض أن غَزِيَّةَ القرن الحادي والعشرين آمنت بها لأنَّها لم تعد تعيش في صحراء منقطعة عن العالم المتحضر إنما تعيش مع عالم يؤسس على هذه القيم، ويعدها ضرورة لا يمكن التخلي عنها، لأنها تؤطر العلاقة بين أتباع القبيلة في السابق مواطني اليوم مع الدولة التي تحكمهم.

إنَّ أخطر ما تكشف عنه هذه الأزمة الخليجية هي هشاشة رابطة المواطنة، من عدة أوجه، أولها غياب دور مؤسسات المواطنة في كل ما يجري، حيث اختبت كلها تحت عباءة الدولة، والقرارات المصيرية ليس لها يد فيها حتى وإن كلفت المواطنين ثمناً باهظًا جدًا، وبالتالي يبدو أنَّ هذه المؤسسات لم تكن إلا تحسيناً للعقلية التي كانت تحكم غَزِيَّةَ وتجعل أفرادها كلهم ينقادون لها حتى وإن كانوا يُدركون مخاطر ذلك الانقياد عليهم مستقبلا، وثانيها تضييق حق المواطنين في الاستقلال برأيهم تجاه ما يجري أيًا كان مستواهم، سواء في الدول التي لها علاقة بالأزمة حيث يجرم من يقدم رأيًا مختلفاً عن الرأي العام، أو في الدول التي ليست من الأطراف حيث نُصح المواطنون بعدم إبداء أية آراء حول ما يجري، حتى لا يتعرضوا لأية تبعات وملاحقات خارج حدود دولهم، مما قد لا يمكن دولتهم من التدخل فيه ولذا هو يعد مسؤولية شخصية.

إنَّ حق التعبير عن الرأي وحق التنقل من الحقوق الأساسية للمواطنين، يتم محاصرتها بشكل غير مسبوق، وبالتالي حوَّل ذلك المواطنين في مختلف الدول إلى مُتفرجين على ما يجري من صراع على الرغم من أنهم يدفعون تداعياته من تضييق في الحقوق والحريات. وثالث هذه المؤشرات على ضعف المواطنة هو غياب أي صوت للمجتمع المدني؛ حيث تتعدد جمعيات بمسميات مختلفة سواء كانت للكتاب أو الصحفيين أو الأكاديميين، بمعنى آخر أنَّ كل هذه الفضاءات التي تدعي استقلاليتها هي أيضاً جزء من الصورة المحسنة "لقبيلة غَزِيَّةَ" حتى تواجه التطورات الحديثة، ولكن حين يجد الأمر لا رأي لها ولا صوت لأنَّه لا حق لها أن يكون لها موقف مما يجري، إلا إن كان موقفا محددا لها أن تعلن عنه، فعن أي مواطنة نتحدث اليوم في المنطقة؟.

لقد صور البعض ما يجري على أنه "حالة انتماء لا مثيل لها"، وأنها تعبر عن حالة وطنية في مختلف المعسكرات، واعتبروها نقطة قوة ما كانت لتظهر لولا وجود هذه الأزمة، وأن أحد الدروس التي يمكن أن يستفاد منها من قبل الآخرين الذين ليسوا طرفا في الأزمة، ونعود إلى النقطة التي بدأنا منها هذا المقال لنقول كيف تكون نقطة قوة والمواطنون عبر الحدود لا يستطيعون أن يُعبروا عن موقف سواء كان بالرفض أو الإيجاب خشية على أنفسهم من تأويل مواقفهم بشكل خاطئ بأنهم متواطئون مع طرف على حساب الطرف الآخر، ولذا لسانهم يردد بصمت ما قاله دريد بن الصمة قبل العديد من القرون:

ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ *** غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ

لكن ماذا لو كانت الغواية بالجملة في كل ما يجري، وينشر عبر مُختلف وسائل الإعلام على مدار الثانية من تعبيرات بلغة ما كان أحد يتوقع أنها سوف تستخدم من قبل أشقاء، ومن قذف لا يُقره لا دين ولا أخلاق، إنها الغواية التي لابد أن يتحملها الجميع طالما أنَّ الرشد لا يزال بعيدًا جداً، ولا نجد له أي صوت لأنَّ صوت الرشد قد يفسر بأنه "خيانة" في ظل أوضاع ملتبسة كهذه الأوضاع، مما يجعل الموهومين يكتشفون أنَّ الطريق لبناء المواطنة في المنطقة لا يزال طويلاً جدًا، وربما سيظل حلمًا بعيد المنال في عالم لا تتحقق فيه المواطنة إلا بثمن باهظ.