الأمر منوطٌ بنا

عبدالله العجمي*

عند دراستنا لأي حركة مستقبلية لأي أمة من خلال استقراء واقع أنشطتها، ومن خلال التطلعات التي يأملها الإسلام منّا، فإنّ كل عاقل منّا يمكنه أن يستلهم من الكتاب الخالد (القرآن الكريم) ومن واقع المفاهيم التي وضعها والخطط التي رسمتها آياته، نوقن جميعا أنّه أَسّسَ لبناءِ عقلٍ إنساني ينطلق إلى مدن المعرفة مخترقاً جدرانها من خلال معرفته لله ولمخلوقاته.

ومن هذه الآيات نفهم أيضاً أنّ الله حرّر العقل في تفكيره وتدبره وتأملاته، فلم يحدد له أطر أو حواجز يمكنها أن تحدّه.. ولم يقفل أمام تأملاته أي من العوالم التي يريد اقتحامها واكتشافها.. والمتأمل لآيِ القرآن الكريم يراها مُصرّة على الزجّ بالعقل الآدمي في شتى مجالات المعرفة، فحريّة العقل مُكتسبة من منطلق أنه لا حدّ لتطلعاته وتأملاته، ولكن عليه -أي العقل- أن يتحمل مسؤوليته ويتحمّل تبعات تفكيره، إذ يجب عليه لاحقاً أن يقدم حججه وأعذاره حين تقديم حسابه بالإضافة إلى حساب بقية الجوارح.. فلا بد أن يقدم العقل شهادته حينها: كيف استدلّ؟ وكيف استنبط؟ وإلامَ توصّل؟ وأي المناهج سلك؟ وما هو نتاج تفكيره.؟!

لعل من أهم الكنوز التي أنتجها العقل البشري على مر العصور هو العلم، وهو نتاجٌ خليط من القراءة والتجربة، أي القراءة في بواطن هذا الكون كي نستطيع فهم الظواهر التي يمر بها والتي تؤثر على جميع من يعيش فيه، وبرغم أن القراءة بحدّ ذاتها ليست بأهم من إنتاج إبداعات واكتشافات جديدة من خلال التعمق في سبر أغوار هذا العالَم واستكشاف أسراره.. إلا أن القراءة بوعي تبرز لنا خلاصة ما أفرزه الآخرون من خلال تأملاتهم واكتشافاتهم، لندرك حينها أنّ القراءة أيُّ قراءة يجب أن تكون بوعيٍ وعلمٍ يصاحبه نقدٌ، فلربما كانت استنتاجات من سبقونا ربما ساقهم إليها انحراف في التفكير، ولربما كانوا مخطئين في توجهاتهم وتأملاتهم، ولربما كانوا هم من الفضل ولهم الاحترام لكونهم توصلوا إلى ما لم نتوصّل إليه.

وما أحوجنا في هذه المرحلة التي نمر بها أن نحاول استقراء ما أبدعه من سبقنا، لا لنتأملها، بل لنحاول الارتقاء واكتشاف إبداعات جديدة، أن نفتح أمامنا آفاقاً فكرية لم تكن مفتوحة، أن نتقبل القاعدة التي انطلق منها هؤلاء المبدعون - برحابة صدر- لننطلق منها باتجاه جديد، أي أننا باختصار علينا أن نسعى لبناء نشءٍ جديد يفكر بطريقة تختلف نوعاً ما، طريقة تنتقد لتضيف جديداً إلى ما سبق اكتشافه، منفتحين بذلك على المستقبل، كل ذلك يمكن أن يتَحَصَّل من خلال الاستقراء العلمي المُنتِج والمبدِع؛ لا الساذج الذي يستظهر ما تم كتابته.

ولعلنا ربما سمعنا من هنا أو هناك من يقول أنّ المسلمين والعرب بعد ابن رشد وابن خلدون قد استنفدوا كل طاقاتهم وتوقفوا عن الإبداع والانتاج الفكري، ولكن نقول لهم: كلا.. فالحركة الفكرية الإسلامية لم تتوقف يوماً.. فقد نجد تركيزاً وإسهاباً في جانب فكري معين، بينما نرى تسطيحاً في جانب آخر. ولكن رغم كل هذا وذاك لم يتوقف المسلمون عن إنتاج مفكرين ومبدعين على مر العصور. تبقى المسألة في اختلاف تجارب فكرهم.

إن أولى خطوات الانعتاق من سلاسل التفكير القديمة هي تحرير العقول من التبعيّة، أي ألا ننقاد انقياداً أعمى خلف أي منهج تفكيري، بل علينا العمل على اكتشاف نقاط الضعف في تلك المناهج الفكرية، إذ لا يكفينا الانبهار بنقاط القوة في شخصية معينة سياسية كانت أم دينية، علينا أن نعي أن النقد ممكن وممكن جداً، فلقد خُلِق الإنسان وأعطي الحرية في التفكير والعلم والحركة، علينا عدم استعباد عقولنا، ولا استرقاق أنفسنا أمام أيا كان.

إننا كأمة أطلّت على كتب باقي الأمم واستنبطت منها ما يفيد البشرية في شتى مجالات العلم كالطب والكيمياء والرياضيات وغيرها من العلوم، وحاولت أن تُفيد بقية الأمم وتُشركها في إبداعاتها واكتشافاتها، ولم تستحوذ على منابع ونتائج هذه الابتكارات والاختراعات. لكن في المقابل نجد أنّ أمماً أخرى قد قرأت في كتبنا واستفادت من مخترعاتنا وزادت عليها وأبدعت في بناء حضارتها مستندة على بعض ركائز حضارتنا نراها في المقابل تحاول الاستحواذ على الابتكار العلمي لنبقى كما يريدون سوقاً نستهلك ما ينتجونه.. إضافة لكونهم مصادرين لثرواتنا ومستحوذين على أدمغتنا ومبتكرينا، لذلك فإننا أمام تحدٍّ هائل ينتظرنا، فنحن أمام مفترق طرق إمّا أن ننضمّ إلى قوافل المبتكرين بين الأمم، أو أن نسلك طريق السير إلى اللامجهول انحداراً وليس صعوداً.. فالأمر كله منوطٌ بنا!

*رئيس لجنة الثقافة والتعليم بالاتحاد العربي الإفريقي للإعلام الرقمي