في بلاد القدِّيس جورج (7)

 

 

د.محمد العريمي

وسط تيار هوائي باردٍ يخلخلُ العظام ويزلزل الأسنان، نعبر السجادة الحمراء التي تربط الفناء شبه الخالي وقتها بالمتحف في طريقنا إلى بوابته؛ بحثاً عن دفء، وفي لهفةٍ لاكتشاف المجهول المتعلق بشخصية تاريخيةٍ أثارت الجدل كثيراً كستالين ليستقبلنا تمثال آخر للزعيم في الواجهة. لم أر في حياتي تماثيل أكثر عدداً من تلك التي رأيتها في جورجيا، لدرجة الاعتقاد بأنهم يدخلون في التعداد السكاني للدولة! ندلف من البوابة فيشير علينا أحد الحراس بضرورة قطع تذكرة الدخول وهي حوالي 15 لاري، لنبدأ بعدها في استكشاف معالم المتحف ذي الثلاث طوابق، والذي بُني على طراز الخمسينيات الكلاسيكي الذي يُميِّز مباني الحقبة السوفييتية، والذي تأسس في عهد صاحبه وليس بعد وفاته كما يعتقد البعض!

تبدأ جولتنا في القسم الأول من الأقسام الستة التي يحتويها المعرض الذي تتناثر التماثيل النصفية والكاملة، والصور البانورامية الضخمة، والرسومات على جوانبه ومداخله. نلمح في القاعة التي استفتحنا بها زيارتنا الكثير من الأغراض والمقتنيات الشخصية له، ها هو المكتب الخشبي البسيط الذي كان يجلس عليه، ولا يزال الهاتف الذي كان يستخدمه موضوعاً على الطاولة، ثمة دولابٍ زجاجي يحوي بعض الصور والمقالات والوثائق الخاصة، وثمة مراسلات غرامية تعود إلى أيام الصبا، ورسائل أخرى موجهة إلى والدته! دولابٌ آخر يحوي بعض الهدايا وقنينة الشراب الخاصة، وغليونه، وبقايا سيجاره الكوبي ربما. وأمتعة شخصية أخرى، وهكذا نتنقل من قسمً لآخر للتعرف أكثر على شخصية هذا الزعيم عبر مراحل حياته ونشأته الفكرية والسياسية، وأبرز الأحداث التي عايشها وأسهم في صنعها، ولعل أبرز ما أثار دهشتي هو حالة التوثيق الدقيق لكل ما يتعلق بالشخصية لدرجة الحصول على مقتنيات شخصية خاصة جداً يعود بعضها إلى مرحلةٍ لم يكن فيها قد برز أو أثار اهتمام الآخرين!

تنتهي جولتنا بداخل المبنى الرئيس للمتحف لتبدأ في فنائه، لا بأس من بضعة صورٍ أمام تمثال ستالين العملاق والذي ينتصف فناء المتحف ويرتفع لأكثر من ستة أمتار. يقال إنَّ هذا التمثال كان يُزيِّن إحدى ساحات البلدة قبل نقله إلى هنا منذ بضعة سنوات خلال الحرب الجورجية-الروسية! ندخل بعدها القطار الأخضر الرابض طرف الفناء قريباً من البوابة والذي كان مخصصاً لتنقلات الزعيم. ما شدني في القطار هو بساطته الشديدة بعيداً عن بذخ وسائل المواصلات الخاصة بالزعماء والرؤساء، حيث كان القطار يحوي مطبخاً صغيراً، ومقصورة للنوم، وبضعة كراسي! نَلْمَح مبنًى صغيراً وسط الفناء خلف التمثال فإذا هو بيت أسرة ستالين والذي ضُمَّ فيما بعد للمتحف، وهو عبارة عن كوخٍ خشبي غاية في الصغر لدرجة أنني استغربت واحترت وحار دليلي معي، فكيف لبيتٍ صغيرٍ كهذا أن يأوي أسرةً متكاملة! وهل لحياة الفقر التي عاشها ستالين تأثير على إيمانه بالأفكار الماركسية، وتأثره بالمبادئ الاشتراكية! ربما.

نتركُ المتحفَ بحثاً عن أماكن أخرى لزيارتها قبل الرجوع إلى تبليسي، وما دمنا في غوري فلا بأس بالمرور على قلعتها العتيقة، وكاتدرائية مريم العذراء. تحتوي غوري بحكم موقعها ومركزها التاريخي على العديد من المزارات التاريخية عدا القلعة والكنيسة والمتحف، لعل من بينها منتجع غوري جفاري بحماماته العلاجية، وكاتدرائية أوربينيسي، وحدائق القرية التي تضم بضعة قلاع وكنائس وأديرة، ومدينة أوبلستشيخي المنحوتة في الصخور والتي تعد أحد أقدم المستوطنات في بلاد القوقاز، بالإضافة إلى متحف المقتنيات التاريخية التراثية الذي يضم مشغولات يدوية، ولوحات معدنية، ومنحوتات مزخرفة، وعملات نادرة مصنوعة من الفضة.

نقتربُ من القلعة دون دخولها؛ ذلك أنَّ البرد القارس الذي يخيم على المكان قد حال دون ذلك، إضافة إلى تعكر مزاج أحمد الذي لا يزال غاضباً لعدم الاستجابة لطلبه في التوقف لشراء أي جاكيت أو قميص يقيه من البرد، الذي لم يعتد عليه طوال سنوات عمره السابقة! بُنيت القلعة على تلة صخرية عالية تتوسط المدينة، ويقال إنَّ الملك الجورجي العظيم ديفيد جورجي هو من أسسها في القرن الحادي عشر، وبفضله تحولت إلى مركزٍ تجاري كبير. نأخذ بعض الصور للقلعة والمدينة والنهر الصغير الذي يمر بجانبها، ولا بأس بلقطاتٍ بانورامية تظهر القلعة بكاملها.

في طريقنا إلى القلعة، وقريباً من أسوارها، يلمح أحمد عدداً من سيارات النقل العتيقة بطرازها السوفييتي القديم، وألوانها الغريبة؛ فيجد فيها فرصة لممارسة هوايته المحببة. وما سهل مهمته هو بشاشة سائقيها وترحيبهم بالتصوير وهي ذات البشاشة التي سأصادفها طوال أيام الرحلة لدرجة أنني استوقفت اثنين من كبار السن كانوا يلعبون النرد في طاولةٍ لم أر أضخم منها وسط تبليسي القديمة لأخذ صورة لهم وسط ابتسامةٍ عريضةٍ لكليهما! في دقائق وبفضل معالجاتٍ برمجية عجزْتُ عن فك شفرتها طوال الرحلة يحول أحمد المشهد إلى لوحة جميلة، وتتحول العربات الكالحة إلى عرائس في ليلة زفاف!  

نقفل أدراجنا راجعين إلى تبليسي ليستقبلنا البساط الأخضر مرة أخرى ربما لينسينا بعض المشاهد الكئيبة التي عشناها وسط مدينةٍ هي إلى حقبة الخمسينات أقرب، وإلى قصص غابات أوروبا بأشجارها العارية شتاءً آدنى، نلمح قريةً صغيرة على حافة نهر طليت بيوتها بألوان زاهية، وكأنها تستقبل الربيع القريب، فنغير وجهتنا تجاهها لنجد أنفسنا وكأننا في كتاب تاريخٍ أندلسي. لم يبق سوى بضعة أقداح عصير، وأشجار تفاح، وناي، وفيتاتٍ مستلقياتٍ على المرج الأخضر ليكتمل المشهد.. وما أجمله من مشهد!

Mh.oraimi@hotmail.com