عُمان ونهج الحياد الإيجابي

حاتم الطائي

في زمنِ الاصطفافات الحَادَّة، والتمذهبات الضيِّقة، وحرب الأيديولوجيات المُهلكة؛ وفي منطقةٍ ابتُليتْ بالتوتر والفتن، والحروب والمحن، اختارتْ عُمان أن تنأى بنَفْسِها عن هذا الاحتراب السياسي والطائفي؛ مُتدثِّرة ثَوْبَ حِكْمَتِها وَنَهْج دبلوماسيتها القائم على مبدأ الحياد الإيجابي، والذي أرسى ثوابته مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -أبقاه الله- منذ فجر نهضتنا المباركة، فحَفِظ على عُمان مكانتها، ونهجها، وإنجازها الحضاري.

وعلى الرَّغم من تداول مفهوم الحيادُ سياسيًّا للمرَّة الأولى في العام 1907م ضمن اتفاقيات مؤتمر لاهاي الثاني -كأول النصوص الرسمية لقوانين الحرب وجرائمها- ورغم حديثِ كثيرٍ من الباحثين وصُنَّاع القرار كذلك عن التجربة السويسرية باعتبارها رأس هرم الدَّلالة على الدول الأكثر تمسكًا بالحياد السياسي منذ انضمامها لـ"حركة عدم الانحياز" -مع ثماني وعشرين دولة أخرى حضرت مؤتمر باندونج عام 1955م- إلا أنَّ عُمان استطاعت -وعلى مدى سنوات نهضتنا المباركة- أن تُزاحم جينف سويسرا على صدارة الأدلة السياسية فيما يخص الحياد الدبلوماسي الإيجابي، ليس على النطاق العربي فحسب، بل إنَّ مواقفنا الدولية تستعصي على أن تُحصى في سطور، وهو حياد لا يُضارع في أصوله ومبادئه؛ إذ لا يجد مُبرراته في الدواعي السياسية والاقتصادية وحدها، بل يُبرِّره أيضًا موقفنا الحضاري، والعلاقات المتينة التي تربطنا بدول العالم أجمع؛ مما جعل عُمان قِبلةً يولِّي كلُّ حادٍ للسلام والاستقرار وَجْهَه شطرها.

فالحيادَ الإيجابيَّ كنهج مترسِّخ في الذهنية الدبلوماسية العُمانية بشموليته وعُمقه السياسي، يَرْتفع فوق أصوات الخلاف ويقف على مسافة واحدة من الجميع، متعمِّقًا في المشكلات الإنسانية والعلاقات الدولية يومًا بعد آخر، مُستفيدا من نظرة استشرافية لتطوراتٍ وتبدُّلاتٍ يعيشُها عالم تعلو فيه أصوات الرصاص والاختلاف والتكفير على لغة الحوار الإنساني والفكري القائم على النقاش وتغليب المصلحة العليا للدولة/المنطقة/العالم -أو المشترك الإنساني بمفهومه الواسع- على الأنانيات والمصالح الشخصية، وهو مَوْقف قائم على التحرُّر التام من حُمى "المسكِّنات اللحظية" بشعاراتها الرنَّانة وكلماتها الفضفاضة؛ إذ يحتكم لثقابة الرُّؤية وعقلانيتها واتزانها، وتهيئة الجو والشروط التي تسمح بالتخلُّص نهائيًّا من مَنْطِق الصراع بشكل واقعي سلمي؛ تطبيقاً صادقاً لرُوح الدبلوماسية المُحبَّة للسلام.. وهذا كله بفضل حكمة القيادة التي عبَّر عنها جلالته في العديد من خطاباته السامية، ومن ذلك خطابه بمناسبة العيد الوطني الثاني والعشرين، حين قال -أيَّده الله: "لقد اعتمدنا دائما في سياستنا الخارجية ثوابت أساسية ومبادئ رئيسية؛ تتمثل في: حُسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، واحترام القوانين والأعراف الدولية، ودعم التعاون بين الدول، وتعزيز فرص الحوار فيما بينها؛ تعبيرا عن قناعتنا بأن حل الخلافات بروح الوفاق والتفاهم إنما هو سلوك حضاري يؤدي إلى نتائج أفضل وأدوم".

وفي حِيْن تفتح سويسرا ذراعيها كنقطة تلاقي الفرقاء، بلقاءات جينف المتعاقبة، يعملُ سفراء عُمان، المكلَّفين منهم وغير المكلفين -وأعني المواطن العُماني العادي بثقافته المحبَّة للخير، والمتمتِّعة بأعلى درجات السُّمو الفكري والمنطقي- في صَمْتٍ، بعيدًا عن الأضواء؛ إذ نُبل الغاية بتحقيق السلام واقعًا على الأرض هو الشغل الشاغل والهدف الأسمى، رغم جغرافيتنا التي لا تبعد كثيرًا عن تطاير شرارات الأزمات، بل إن شئت الدقة فنحن في الحقيقة بالقرب من قلب فوَّهة بركان المنطقة.

إنَّ اتصالًا سياسيًّا عُمانيًّا إيجابيًّا، تُسجِّله صفحات التاريخ بمِدَاد من ذهب؛ فلا يُنسى لمسقط وساطتها للم الشَّمل العربي بإنهاء قطيعة العرب مع مصر إثر "اتفاقية كامب ديفيد"، ولا ابتعادها عن التحالف الخليجي مع العراق ضدَّ إيران، ومشاركتها في حرب الخليج الثانية. ومن ثمَّ في العام 2011م ومع استعار أزمة الأشقاء السوريين لم تقطع السلطنة صلتها مع دمشق، ولم تطرد سفيرها بل أبقت كافة قنوات الاتصال مفتوحة، وكذا موقفها الواضح من "درع الجزيرة" في البحرين، ورفضها المشاركة في تحالف حرب اليمن؛ واستضافتها جولات الوفاق الليبي، ووساطتها المميَّزة في الاتفاق النووي التاريخي بين إيران والغرب، بالطبع مع عدم إغفال كَم الاتفاقيات وحجم العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والقوى الآسيوية الكبرى، وعضوية العديد من المنظمات الدولية، والجوائز والأوسمة التي تُمنح لعُمان على فترات متعاقبة؛ تقديرًا لدورها الفاعل في ضبط ميزان السلم العالمي.

كما أنَّ تعامل السلطنة في مسألة ترسيم الحدود مع جيرانها، كان هو الآخر دليل حكمةٍ جليًّا؛ إذ عَمَدتْ إلى نزع فتيل أي توتر يُمكن أن ينجم عن الخلافات على الحدود، فتمَّت الترسيمات بموجب توافق أخوي مع الإمارات، والسعودية، واليمن، وإيران؛ في مكسبٍ كبيرٍ لدبلوماسيتنا؛ يُجسِّد حرصًا أكيدًا على إرساء علاقات حُسن الجوار؛ كمنطلق لاستتباب الأمن محليًّا وإقليميًّا.

إنَّها إيجابية واقعية، تدرك حدودَ قدرتنا ومُعطيات قوَّتنا، وتسعى لتوظيفها بشكل حيوي؛ اتساقًا مع استحقاقات موقعنا الجيوإستراتيجي، وعُمقنا التاريخي والحضاري؛ دولةً تحتفظ بعلاقاتها بتعامُلٍ دبلوماسيٍّ ذكيٍّ لتحقيق التوازن بين المصالح، بحثًا عن مُعادَلة كسب الجميع وكشريك ثقة لمُمارَسة هذا الدور. وليبقى القول في الأخير تأكيدًا على أنَّ سياستنا الخارجية بإنصافها ومُرونتها وأساسها القائم على الفهم بَعِيْد المدى وعدم التدخل في شؤون الغير، إنما هي عقيدة راسخة تخدمُ وِحْدَة الصفِّ العربيِّ، وتوثِّق عُرى العلاقات مع دول العالم أجمع، في إطارٍ من احترام السيادة، بكلِّ حيادية واتزان.