المواطنون المغيَّبون.. الخطر الأكبر على الخليج

د. سَيْف المعمري

هل كان دونالد ترامب مُحقًّا في وصف الخليج حين قال: "الخليج ليس إلا مُجرَّد أموال"، ولم يقل الخليج هو مواطنون مثقفون، أو الخليج دول مؤسسات، ولا يُمكن أن يأخذ منه شيئا إلا بعد أن توافق هذه المؤسسات، ولم يقل إنَّ الخليج قوى مدنية لن تناهض أي محاولات منا في استغلال حاجة حكوماته للحماية، لا شيء في الخليج إلا الأموال: عوائد النفط التي تقرِّر كثيرًا من السياسات وتقود إلى اتخاذ مُختلف القرارات.

وفيما عدا ذلك، كلُّ شيء مُغيَّب: المواطنون، رجال الدين، الجمعيات المدنية، الكتاب والإعلاميون...وغيرهم ممن يحملون الألقاب الكبيرة، ويوصفون بالصفات العظيمة من الإخلاص والولاء  الانتماء، هؤلاء الذين يوصفون بأنهم بصوتهم قادرون على تقرير كل شيء في أوطانهم من المكان الذي يمكن أن يوضع فيه عمود الإنارة إلى كيفية صرف المال العام حتى لا يذهب إلى اللاشيء، ويجدون أنفسهم مضطرين للتعويض من جيوبهم وقوت أبنائهم؛ لأنَّ ذلك واجب عليهم لا على غيرهم. والمواطنة إنْ كانت هي تغييب عن كل أنواع الحقوق، إلا أنها لا تعني التغييب عن الواجبات التي لا يكون المواطن مواطنا، إلا بِهَا، وفي مقدمتها واجب السمع والطاعة، وإن كان في أمر لا يعود بالخير على الوطن، لكن المواطن ليس مُخيَّراً بين أمرين؛ هما: إما أن يقول خيرا أو ليصمت؛ فالخير لا يفهم على أنه خير، إنما خروج عن الواجب الذي لا يُحدِّده الصالح العام؛ لذا عليه الصمت، وذلك فضيلة كبرى تجعل صاحبها يعتلي المراتب العلى.

فأيُّ تغييب لحق المواطنة في المنطقة؟ وأيُّ ثمن باهظ يُمكن أن يدفع لذلك التغييب، خاصة إن كان في هذه المرحلة الحرجة التي تتطلب الاستقواء بالمواطنين المتعلمين والمستنيرين، هذه المرحلة التي تتطلب وجود أصوات بديلة تعمل على التهدئة حين تحتدم معارك إعلامية لها  آثارها العميقة، كما جرى خلال الأسبوع  الماضي. هذه المرحلة التي تتطلب وجود مؤسسات إعلامية لها استقلالية حتى تنقل رواية بديلة أو تعرض الرأي والرأي الآخر الذي يقود إلى الانتصار لحاجة الأوطان إلى الاستقرار والحياة.

ما جرى الأسبوع الماضي في المنطقة الخليجية، أكَّد حالة تغييب المواطنين إما بشكل مقصود أو بشكل غير مقصود؛ حيث المواطن لا يملك نفسه ولا صوته، فهما ملكٌ لوطنه، شأنهما شأن القرار والتصرف في رأس المال، فلا سبيل للخروج عن حالة التعبئة العامة التي تؤدي إلى العصف بالمقدرات وتبديد المال الذي هو حق للأجيال الحالية والمستقبلية على معارك إعلامية تنشر الفرقة والتشرذم والكراهية بين شعوب منطقة لم يفرقها شظف العيش يوما، فكيف تتفرَّق في وقت الرخاء. شعوب يجمعها ما لا يجمع كثير من الشعوب في هذا العالم، فكيف تتسامح مع كل هذه الخطابات أن تعصف بقواسمها المشترك، فأي حضور للمواطنين في كل ما يجري من قرارات  سياسات رغم أنهم سيكونون أول من يدفع ثمنها ويتحمل آثاره، وكيف يكون التغييب هو النتيجة لكل هذه العقود من  التركيز على تعليم المواطنين الذين لا صوت لهم في أي أزمة يمكن أن تؤثر على المنطقة وتهدد استقرارهم وأمنهم؟

إن تغييب المواطنين أو غيابهم عن المشهد الوطني في دول المنطقة يعدُّ خطرًا أكبر من أي خطر يمكن أن تواجهه المنطقة، ولا أحد يمكنه أن يتخيل حين تثار أزمة بين حكومات المنطقة سواء كانت على نطاق اقتصادي مثل فرض شروط على دخول منتجات زراعية أو في أزمة سياسية كتلك التي اندلعت  الأسبوع  الماضي، لا نجد أيَّ قوى مدنية تمثل المواطنين تعمل على مستوى وطني أو على مستوى خليجي تعمل على المساهمة في الحل أو في تقديم رواية واقعية تقوم على التقريب بين مختلف الأطراف من منطلق الحفاظ على مُقوِّمات القوة في المنطقة بدلا من إضعافها بشكل لن يستفيد منه أحد لا اليوم ولا في الغد؛ حيث يتطلع صغار السن والشباب الذين يشكلون غالبية السكان إلى حكومات المنطقة في أن تهيئ لهم حياة أفضل؛ وذلك بوضعهم الهدف الأساسي لكل القرارات والسياسات والحفاظ على ثروات بلدانهم لهم بدلا من تبديدها من أجل البحث عن مكانة عليا لا تسمح به المعطيات التاريخية ولا الديموغرافية ولا العلمية أو التقنية، أو تبديدها على مُؤسسات إعلامية أو انتهازيين يعملون في مجال الإعلام لبث الفرقة ونشر الكراهية بين شعوب المنطقة؛ حيث تعمل كل دولة على الاستقواء بهم والإغداق عليهم من أموال الشعوب بدلا من أن تستقوى بمواطنيها وتهيئ لهم السبل ليكونوا أقوياء فتوفر لهم تعليمات عال الجودة ومؤسسات صحية تغنيهم عن التجوال عبر العالم بحثا عن العلاج، وتوفر لهم السكن أو المساعدات السكنية التي تجعلهم يتجنبون الديون، وتعدهم شركاء في القرار لا غرائب لا حق لهم إلا قطعة الأرض التي يسكنون عليها، والتي لم يصبحوا وحيدين في تملُّكها؛ حيث وافدين إلى أوطانهم تمكنوا من تملك بيوت وشقق مثلهم، لذا فأي دور يمكن أن يلعبه المواطن في المنطقة غير الدور الاستهلاكي لكل ما تستورده المنطقة من منتجات وخدمات؟ هل هناك دور حضاري يمكن أن يقوم به ويقود إلى تمكين مختلف لهذه الأوطان؟!

ما أصعب الأسئلة التي تُطرح في هذه الفترة والتي يجب على المواطن في المنطقة الخليجية أن يغيب نفسه عما يجري في المشهد إن أراد أن يكون آمناً، وعليه أن يعي أن المصطلحات لا تحمل نفس المعاني التي تعرف بها في مناطق أخرى في العالم. ففي الوقت الذي تعلَّم في أنظمة تعليمية في دول العالم الطلاب في المدارس على أنهم لن يكونوا مواطنين صالحين، إلا إذا شاركوا في بناء أوطانهم بالنقد والتعبير عن الرأي بموضوعية، تَعلَّم الطلاب في المنطقة أنهم لن يكونوا مواطنين صالحين إلا إذا مجَّدوا كل شيء حتى وإن كان خطأ. وفي الوقت الذي يكون رأي المواطن فيه هو الاعتبار الأول الذي يحرك أي قرار في مناطق أخرى من العالم، لا يعد المواطن هنا مُحرِّكا ولا عائقا لاتخاذ أي قرار فهو مغيب عن المشهد؛ لأنه غير ناضج بما فيه الكفاية ليعرف أين تكمن مصلحته هنا في الصمت أم في الحديث؟ هل في السلامة أم في الجرأة من أجل صالح وطنه؟

وأيًّا كانت الأسئلة، يبدو أن حالة المواطنة والمشاركة في منطقة الخليج تتطلب نظرة متعمقة من الحكومات ليس من أجل سواد عيني المواطنين فقط، إنما من أجل مصلحة واستقرار المنطقة في المستقبل؛ فلا أحد يُمكن أن يرضى أن يقف في الخط الأول للدفاع عن هذه الأوطان إلا المواطنين.