للإنفاق في سبيل الله آثار عظيمة لصالح المجتمع والإنسانية

مساعد المفتي العام للسلطنة: المال هو مال الله عز وجل والعبد مستخلف فيه.. فعليه أن ينفقه حيث أمره الله سبحانه وتعالى

 

مسقط - أحمد الجرداني

يُعدُّ الإنفاق من أهم ما وصَّانا به الله -عزَّ وجل- وهناك الكثيرُ من الآيات في القرآن الكريم تحثُّ على الإنفاق لما له من عظيم الأثر على الأفراد والمجتمعات؛ سواء كان إنفاقا واجبا على النفس والولد والزوجة، وأداء الزكاة المفروضة ونحو ذلك، أو إنفاقا مُستحبا كصدقة التطوُّع، والإنفاق في أوجه البر المتنوعة كالنفقة على اليتامى والأرامل والفقراء والمساكين، كالهبات والهدايا، والتبرُّع لمؤسسات البر والإغاثة ونحو ذلك.

وفي هذا الصدد، يقول فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي، عن المواضع التي تناول فيها القرآن الكريم الإنفاق من حيث الحكمة، والأهمية، والأثر: هذه قضية لابد أن ننتبه لها؛ لأن فيها خيراً كثيراً (كيف تناول القرآن الكريم موضوع الإنفاق؟)؛ لأن السياقات والمواضع التي ورد فيها الإنفاق أمراً وحثًّا وبياناً لحكمته وصفةً يتصف بها عباد الله تعالى الأتقياء المؤمنون، كثيرةٌ جدًّا في كتاب الله عز وجل، وسوف أعلق على هذه الآية التي أنصتنا إليها من سورة البقرة، ثم بعد ذلك نأتي سريعاً إلى تناول القرآن الكريم لموضوع الإنفاق.. هذه الآية تبين معنى البر، وقد ورد البر في كتاب الله عز وجل في أربعة مواضع، وفي موضعين من هذه الأربع اقترن البر بالإنفاق، وسوف نأتي إليها: الموضع الأول هو هذه الآية "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.." إلى آخر الآية، والموضع الآخر هو قوله تعالى: "لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ..."، والبر هو سعة الإحسان، وهو ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى بأكمل المعاني والخصال؛ لذلك البر مساوٍ للإحسان الكامل، ولشدة ابتغاء الخير، وإرادة المعروف، والإحسان الشامل.

لذلك؛ توصف بالبر الأفعال ذات المعاني الجزيلة في الإحسان، فيقال مثلاً: بر الوالدين بدل من أن يقال صلة الوالدين مع أنه يقال صلة الأرحام؛ لكن نظراً لقوة الإحسان أو شدة الإحسان المطلوب من الواحد تجاه والديه فعُبِّر عن هذه الصلة ببر الوالدين، وكذلك مثلاً يقال: الحج المبرور؛ نظراً لأن الحج من شعائر هذا الدين التي تصل هذه الأمة بإبراهيم الخليل -عليه السلام- فإذن البر هو بهذا المعنى الذي يراد به شدة إحسان العبد لنفسه بابتغاء مرضاة الله تعالى وبتلقي شرائعه وأوامره.

وهنا، تبدأ الآية بنفي أنواع من البر، مع أنَّ منها ما هو من البر كما بينت الآية نفسها، والآية وردت طبعا في سياق الرد على أهل الكتاب الذين عَرَّضوا بالمسلمين إثر تحويل القبلة، ومع أن استقبال القبلة استقبال الكعبة هو من البر؛ إلا أنَّ الآية تنفي أن يكون ذلك هو تمام البر وكماله؛ إذ هذه وسائل والمقصود هو المقاصد والغايات، فما هذه الوسائل من تحويل القبلة ومن استقبال الكعبة ومما بينه الله سبحانه وتعالى في مواضع أخرى من كتاب الله عز وجل إلا وسائل وطرق تُبلِّغ العبد غايات مقصودة لذاتها؛ لذلك فإنَّ استقبال القِبلة مثلاً يسقط في حالة العجر، في حالة المرض، في حالة عدم الإمكان؛ لكن لا تسقط الصلاة.

ثمَّ تأتي الآية بعد ذلك لتبين معاني هذا البر، وهي معانٍ جليلة، تبدأ من الإيمان بالله تبارك وتعالى، والإيمان باليوم الآخر، وبكل أركان الإيمان: الملائكة والكتاب والنبيين، وعقب تقرير أن البر لا يكون إلا بحسن الإيمان وصدقه يأتي مباشرةً ما يتصل بالإنفاق، لم يأتِ أمر الصلاة ولم يأتِ أمر الفرائض الأخرى وإنما جاء أمر الإنفاق: "وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ..."، ثم بعد ذلك قال: "وَأَقَامَ الصَّلاةَ..."، وقال مرة أخرى: "وَآتَى الزَّكَاةَ..."، فتكرر ذكر المال مرتين؛ لذلك استنبط كثيرٌ من أهل العلم أن إيتاء المال المقصود في صدر الآية هو غير إيتاء الزكاة، وبذلك استنبطوا أن في المال حقاً سوى الزكاة.

ويُضيف فضيلة الشيخ: ذُكرت خصال هؤلاء الذين يتصفون بكمال البر وتمامه التي صُدِّرت بعد الإيمان بالإنفاق وكذلك خُتِمت بالإنفاق بالزكاة جاءت صفاتهم الخُلقية الأخرى: "وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ..."، ثم يقول الله تبارك وتعالى: "أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ"، إذن هؤلاء الذين اجتمعت فيهم هذه الصفات ومنها إيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، هؤلاء هم الذين صدقوا وهؤلاء هم المتقون.

وهذه المعاني نجدها مُتكررةً في كتاب الله عز وجل؛ فالقرآن يقر الفطرة التي فطر الله تعالى عليها الناس "وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً"، ويقول هنا: "وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ..."؛ لكن مع إقراره بهذه الفطرة فإنما الذم يكون للشح والهوى، والمطلوب من المسلم أن يتخلص من هذه الخصال، فيعلم بعقيدة الإيمان التي تكون الباعث وراء إنفاقه وبذله في سبيل الله -عز وجل- أن هذا المال إنما هو مال الله -عزَّ وجل- وهذا العبد مستخلف فيه؛ وبالتالي فإنما عليه أن ينفق حيث أمره الله سبحانه وتعالى بالإنفاق، ولو كان ذلك مناقضاً لهوى نفسه ولحبه للمال الحب الجمَّ الكبير، وهكذا يؤجر على إنفاقه، وهكذا يتخلص من هوى هذه النفس، ويتخلص من شحها، وينال الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى.

وحول الآية التي تقول: "وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ"، يقول فضيلة الشيخ: لا شك أن العطف بالواو يفيد لغةً مطلق الجمع؛ لكن كما يقول أهل العلم إن في تقديم الذِّكر إعلاءً للشأن؛ وبالتالي هذا يدل على أن هذه الخصلة التي يلفت القرآن الكريم المؤمنين إليها دليلٌ على عظيم منزلتها، ولننظر نحن في كتاب الله عز وجل حتى نستعرض سريعاً: أصلاً بداية سورة البقرة ورد فيها موضوع الإنفاق بأسلوبٍ يُفهَم منه أن المقصود هو عدم حصر الإنفاق في موضوع الزكاة الواجبة؛ فالله تعالى يقول: "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"، ثم بعد ذلك قال: "والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"، ونجد مثلاً في سورة الأنفال: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" لم يذكر إلا هاتين الصفتين بعد ذكر صفة الإيمان، وأن قلوبهم وجلة من ذكر الله تعالى، بعد ذلك قال: "أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً".

تعليق عبر الفيس بوك