أتسـتَفتُونَني وفيكم ترامـب؟!

 

سلطان الخروصي

يبدو أن التخبط الأمريكي في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية بات يوحي باشتعال الرأس شيباً، وبالمقابل نجد لوحة فنية بديعة للأنامل الروسية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ويبدو أنّ صراع الكبار بدأ يضع أوزار الحرب الباردة على صفيح من نار، فأمريكا التي زغردت وزمجرت للثأر سياسياً وعسكرياً وسيادياً ممن تراهم براثن البشرية ولعنة ديمقراطيتها بدأت اليوم تهيم على وجهها في مستنقعات حالكة وكأنّها ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها.

فقبل أيام أعلن ريكس تيلرسون - وزير الخارجية الأمريكي- أن بلاده بحاجة إلى استراحة محارب؛ لتقييم مسار المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية التي أكلت البشر والحجر لأكثر من ستة عقود ونيف من الزمان، في وقت كان دونالد ترامب يملئُ العالمُ ضجيجاً بأنه مصباح علاء الدين السحري للبتّ في هذا الحمل الثقيل الذي ترفّع عنه العرب وجعلوا الفلسطينيين وقوداً لنار الاحتلال، والمتتبع لحقيقة (الأوفر تايم) الذي أعلنه تيلرسون ما هو إلا دلالة على احمرار خد أمريكا من صفعات انهالت عليها من الكيان الصهيوني المتمثّل في نشر سرطان الاستيطان في القدس الشرقية وما بقي من أراضي (1967)، علاوة على المُماطلات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تنتهجها سياسة بنايمين نتنياهو – رئيس الوزراء الإسرائيلي- والتي تُتقن لعبة استغلال الوقت لصالحها، وما أعلنه ترامب ما هو إلا استصراخ صقور وحمام الكونجرس أننا لا نملك من الأمر شيئاً.

 وفي الملف السوري يبدو أنّ إعلان الرئيس بشار الأسد بقاءه في السلطة وفقا للدستور الجمهوري السوري بل ونيته في مرحلة سابقة الترشح للرئاسة– وهو الفائز لا محاله- يشكل صفعة أخرى لترامب في وقت حُشرت فيه أعيُن العَالم نحو فوّهات البوارج والطائرات والقاذفات إبّان حكم سلفه أوباما وحينما كان وزير خارجيته السابق جون كيري حصان طروادة الذي قاب قوسين من رسم صورة أخرى للمشهد السوري على غرار المستنقع العراقي إبّان غزو (2003)، لكن البراعة الروسية أقوى مما كان يتوقعها الأمريكان آنذاك والذي أوهَم وزير خارجيته بحسن نوايا الروس فجعله حملاً وديعاً في أحضان لافروف وزير الخارجية الروسي؛ إذ كان الفيتو الروسي حرس الحدود لأي تدخلٍ عسكري في سوريا، وحينما اجتمعت الأطراف في "جنيف1" واتفقوا على أن يتم نقل السلطة سلمياً من الأسد إلى من يراه الشعب السوري ممثلا حقيقيا له، استطاع لافروف بدهائه السياسي أن يلدغ كيري بلسعات مسمومة عبر إفشال الخطوات التنفيذية المزمع ترتيبها في لقاء "جنيف2" والذي خرجت فيه جميع الأطراف بخُفي حُنين، وظل الرئيس الأسد يُعلنها جهاراً نهاراً أنه ينوي الترشح لولاية رئاسية جديدة، مُتخطياً في ذلك كبرياء أمريكا التي أضجّت العالم بصراخها وعويلها، بينما نجد أن لافروف يحشو الغليون في مدوخه وهو يغرد: "نحن لا نتدخل في السيادة السورية" وكأن الماء البارد قد انسدل على وجه كيري الذي بدا يستصغر نفسه وكأنه مُهرَّجٌ مجنون بين عصى بوتين وجزرة أوباما.

وفي المشهد العراقي نجد أن حكومة ترامب تقف موقف المُتفرج عما تشهده البلاد من اثخان في جِراحاتها المزمزنة والمُفعمة بالتصفيات السياسية والحزبية والمذهبية لتعلنها للملأ "يجب أن تكون هناك نيّة صادقة نحو اللحمة الوطنية في العراق" دون أن يكون لها أي موقف إزاء التدخلات الإقليمية وبعض الحركات الدينية التي تقتل الحياة البرلمانية والديمقراطية فيه، في وقت يفجر نوري المالكي رجلهم الذي قبع في السلطة لثمان سنوات في رئاسة وزارء العراق، مفاجأة من العيار الثقيل أن "داعش" وسقوط الموصل بيدهم في العام 2014 وهي المحصّنة آنذاك بثلاثة ألوية كاملة ما هي إلا صناعة أمريكية وباتفاقيات مبرمة.

وولوجاً إلى المشهد الأوروبي يبدو أن ترامب يتلقّى صفعات متواترة من الروس وبالأخص من موقف الأخيرة الحازم في القضيتين الأوكرانية والسورية، فنجد أن حكومة ترامب تكرُّ وتفرُّ نحو القضيتين بخطى مبعثرة يغلب عليها التقهقر والرجوع إلى سياسة العُزلة التي انتهجتها إبان الحرب العالمية، ومما يتّضح أن الأمريكان يشعرون بالغضب الروسي في هذه المنطقة، والدليل على ذلك الرد الأمريكي الباهت نحو استحواذ الروس على شبه جزيرة القِرم، كما أن التدخلات الروسية في البيت الأوكراني واضحة للعيان لكن الموقف الأمريكي والأوروبي يشي بخطورة الموقف نحو أي مُراهنات أو حماقات قد ترتكبها حكومة ترامب في ظل رحابة الصدر التي انتهجتها حكومة بوتين نحو العقوبات الاقتصادية وهي تعلنها بوجهٍ صبوح "لكم دينكم ولي دين" وبالمقابل تُهدِّدهم "كُل نفس بما كسبت رهينة"، وكأنها بذلك تفتح على الأخير رُدهات مُظلمة توحي بخطورة المجازفة في ظل التحدي الروسي الكبير.

وفي المشهد الإيراني يبدو أن الضبابية هي سيدة المشهد في وقت ترقّب العالم أن يُغلق هذا الملف بغطرسة رجل المال والاقتصاد الذي راهن عليه العالم بقوة شخصيته وصراحتها وجرأتها، لكن يبدو أن النفوذ الروسي يمتصّ الغضب الأمريكي من خلال المُماطلات و"التّقيّة" اللافروفية في الملف النووي الإيراني، وعلى الرغم من الوساطة العُمانية في رأب الصدع بين الأمريكان والإيرانيين إلا أن المماطلة الناجحة للإيرانيين تسير على خطى الروس بثقة واتقان، وأمام هذا الثقل الكبير الذي يلقيه الروس على صدر ترامب المتحرِّز حتى اللحظة في كثير من الملفات الساخنة قدِم إلى الخليج في زيارة هي أشبه بترقيع مشهدٍ متناثر في ظل صراع واستعراض القوى بين دول المجلس مدفوعة بمؤثرات خارجية.

والمتتبع لأبهة الاستقبال وحفاوة الضيافة وكثرة جموع المستقبلين لهذا الضيف الذي طالما غنى في مناظراته الانتخابية أنه سيجمع أموال الخليج والعرب، جاء ترامب وهو يقود معه ابنته الحسناء التي أستنهضت مشاعر الشعراء الذين أسدلوا عليها وابلا من قصيد الغزل والمدح بل وتم توظيف بعض المشاهد سياسيا واجتماعيا، حضر العدد الغفير وهم لم يحضروا في قمة عربية أو إسلامية بهذا الجمع الكبير، أكرموه وأنعموا عليه وأعطوه (المقسوم) على شكل صفقات أو هبات أو استثمارات.

ومثل تكلك الحفاوة تنبئ أن العرب يرون في هذا "البودي جارد" مارد علاء الدين لحل قضاياهم الكثيرة التي أزعجت وسببت لهم الصداع، هو لم يتحدث عن المشهد الإيراني والذي يبدو أن الهدف الأساسي لكل هذا الاستقبال العربي، ولم يتحدث عن القضية الفلسيطينة والاستيطان وهي القضية المصيرية الأبدية في النضال العربي، ولم يتحدث عن الانتهاكات الصهيونية والتي تقتل البشرية يوما تلو الآخر، فيبدو أن العرب يجدون فيه قمة الحنان والعطف وهو الذي عُرف عنه دفاعه المطلق والحقيقي عن مصلحة بلده في المقام الأول كما أظهر ذلك في انتقاده للاتحاد الأوروبي أن أمريكا لن تدفع أكثر من الأعضاء فعلى كل واحد منهم مسؤوليته. لكن المتتبع يجد وكأن العرب جعلوه "شيخ المسلمين"، فلسان حالهم حينما تستفتيهم عن برامجهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المرحلة القادمة إبان الرئاسة الأمريكية الجديدة يقولون لك: أتستفتوننا وفيكم ترامب!؟

تقبّل الله منكم صيامكم وصالحات أعمالكم،،

sultankamis@gmail.com