الوقف في الإسلام (1ـ2)


رجاء بنت سعيد بن راشد الكلبانية
أخي القارئ الكريم: الإسلام دين الكمال والشمول، كمال وشمول يُساير متطلبات الفرد وحاجات الأمة، ويحقق العزة والكرامة لأهل الإسلام في دارهم الدنيا والدار الآخرة، دين يحقق كل أواصر التكافل بين المسلمين، وكل أنواع التعاون بين المؤمنين، حوى كل سبل الخير، وشمل جميع أنواع البر قال الله تعالى:  وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ  [المائدة:2].
إنَّ في الناس قدرات وطاقات، والله قد قسم هذه القدرات والطاقات بين الناس ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون.
لقد أصبح المال عصب الحياة، ولهذا فإن الله جلت قدرته نظّم لكم التصرف في هذه الأموال اكتساباً وتصريفاً، فبين لكم كيف تكتسبونها وكيف تتصرفون فيها وتصرفونها، نظم ذلك لكم في حياتكم وبعد مماتكم، ففي حياة الإنسان يستطيع الحر المكلف الرشيد العاقل أن يتصرف في ماله بيعاً وشراءً وإجارةً ورهناً ووقفاً وهبةً ووصيةً، على حسب الحدود الشرعية التي بينها الشارع. وبعد ممات الإنسان حَفِظ الله له المال بأن تولى قَسمته بنفسه على أولى الناس به، ففرَض المواريث وقسّمها فقال الله تعالى  ءابَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً  [النساء:11]. وأخبر أنَّ هذه حدوده فقال:  وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ  وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـٰلِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ  [النساء:13، 14].
فيقول الله عز وجل: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿٩٢﴾
 (ال عمران:92)
وقال سبحانه وتعالي: (منْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقره:245).
وقال جل جلاله : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم) (البقره :261).
الوقف: هو حبس منفعة مال في وجه من أوجه الخير وصرفها حسب شرط الواقف.
وهو من أعمال البر التي حض عليها القرآن الكريم وحرص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون على مر العصور.
وأوجه الخير كثيرة تتفاضل بحسب حاجة الناس، فتارة تمس الحاجة إلى توفير الماء، وتارة لبناء المصحات، وتارة لنشر العلم، وتارة لإنشاء الطرقات، وغير ذلك مما ينفع الناس.
فعلي المسلم أن يختار صرف الوقف فيما تمس الحاجه إليه، وله أن يوقف على المساجد مثلاً، أو على اليتامى، أو المرضى أو طلبة العلم أو غيرها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). صحيح مسلم (1631)
وقال ابن عمر رضي الله عنه :قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس منها، قال :  (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) صحيح البخاري (2772).
وقال أبو طلحه :يا رسول الله،يقول الله تبارك وتعالى في كتابه : (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ) (آل عمران :92)، وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء – قال: وكانت حديقة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويستظل بها ويشرب من مائها – فهي إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، أرجو بره وذخره، فضعها أي رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  (بخ يا أبا طلحة ذلك مال رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين)، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه ,(صحيح البخاري (2758).
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إنَّ أمي توفيت وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال:نعم؟،قال:فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها ).(صحيح البخاري (2756)
وأوقف أبوبكر رضي الله عنه رباعاً له في مكة على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وذوي الرحم القريب والبعيد.
وأوقف عثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر والزبير رضي الله عنهم أجمعين.
ومن أمهات المؤمنين أوقفت عائشة وأم سلمة وصفية وأم حبيبة رضي الله عنهن. وخالد بن الوليد رضي الله عنه احتبس أدرعه وأعتاده في سبيل الله.
يقول جابر رضي الله عنه: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلاّ وَقف. وقال الشافعي رحمه الله: وأكثر دور مكة وقف.
ثم سار من بعدهم الأغنياء والمؤسرون من المسلمين فأوقفوا الأوقاف وأشادوا الصروح، بنوا المساجد، وأنشأوا المدارس وأقاموا الأربطة، ولو تأملت دقيق التأمل لرأيت أن هؤلاء القادرين الأخيار والأغنياء الأبرار لم يدفعهم إلى التبرع بأنفس ما يجدون وأحب ما يملكون ولم يتنازلوا عن هذه الأموال الضخمة والثروات الهائلة إلا لعظم ما يرجون من ربهم ويأمّلون من عظيم ثواب مولاهم ثم الشعور بالمسؤولية تجاه الجماعة والأقربين يدفعهم كل ذلك إلى أن يرصدوا الجزيل من أموالهم ليستفيد إخوانهم أفراداً وجماعات، جمعيات وهيئات، أقرباء وغرباء.
قال بعض أهل العلم: الوقف شرع لمصالح لا توجد في سائر الصدقات فإن الإنسان ربما صرف مالاً كثيراً ثم يفنى هذا المال ثم يحتاج الفقراء مرة أخرى أو يأتي فقراء آخرون فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء وقفاً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم من منافعه ويبقى أصله.
في الوقف تطويل لمدة الاستفادة من المال، فقد تُهيأ السبل لجيل من الأجيال لجمع ثروة طائلة، ولكنها قد لا تتهيأ للأجيال التي بعدها. فبالوقف يمكن إفادة الأجيال اللاحقة بما لا يضر الأجيال السابقة.
وللموضوع بقية...

 

تعليق عبر الفيس بوك