نحو مفاهيم أكثر انفتاحاً (2)

 

د. صالح الفهدي

العقلية الناقدة

ما هو السبب الأكبر وراء ترويج ونشرِ الشائعات في مجتمعاتنا؟ في رأئيي هو فقدان التعليم لبناء خاصية "العقلية النقدية" للإنسان، فأصبحَ لا يكترثُ بما يردهُ، ولا بما يتلقاه، وإنما القيمة الأهم لديه هي في الشخوص ذاتهم الذين يرفعُ عنه إمكانية الخطأ..! أي أنه يعرف الحق بالرجال، وكان المفترض أن يعرف الرجال بالحق.

وأعتقد موقناً أن التعليم إن لم يهدف لبناء عقلية الإنسان لتكون عقلية ناقدة، فلن يحقق الهدف الأكبر منه، يقول الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: "لا يمكن للمرء أن يحصل على المعرفة إلا بعد أن يتعلم كيف يفكر". وليس للمرءِ من طريق للتفكير سوى أن يكون ناقداً، وهذا ما حدث في قصة سيدنا إبراهيم -عليه السلام- حيث اتصل بالحقيقة الإلهية بسبب نقده لوضع قومه وما يعبدون، ثم بدأ يتطلع في الكونِ فيتأمل ويفكر ويتدبر حتى وصل إلى الحقيقة الساميةِ فيه، وهي وجود الله سبحانه وتعالى.

إنَّ وجودَ الإمَّعات الذين هم قومٌ تبع لآخرين، إن قال الناس أحسنا أو قالوا أسأنا رددوا موافقين لهم، لن يخدم المجتمعات في شيء، بل هم نسخٌ مكررة ومتناسخة، تتناسل دون أن ترى أنها مصابة بإعاقة فكرية، وشلل ذهني يكبد المجتمعات النامية خسائر فادحة بسبب عدم القدرة على الابتكار والإبداع والتفكير الحر فيما هو قادم.

وليس من غريبٍ أن ترى عبارة من قبيل "كما وصلني" أو "كما وردني" تحت مقالٍ معيَّن، أو رأي ما؛ لأنَّ العقلية المرسلة لا تُعمل العقلَ فيه، ولا تفكر في مغازيه، ومعانيه. ولهذا تنتشر الشائعات في المجتمعات العربية بالأخص، بسبب التقليل من قيمة المعلومة، وعدم التوقف عندها، والتفكير ملياً بنتائجها، ومدلولاتها. كما ليس من الغريب أن يقول أحدهم برأي فيه من الغرابةِ فيتبعه العشرات موافقين..!!

نعُوْد إلى التعليم لنرى أن الإشكالية الكامنة فيه هي الاقتصار على التلقي الجاهز للمعلومة وحسب، وهذا بدوره يعمل على تعطيل القوى الذهنية للإنسان، ويرسِّخ لديه المتوارث من الأفكار والمسلمات، والنتيجة هي صنع إنسان تابع وليس إنساناً مستقل الفكر كما تقول العبارة الإنجليزية: (Education is formation not information)، وتعني أن التعليم هو تشكيل للشخصية الإنسانية، وليس تزويده بالمعلومات فقط.

أما سياسة تلقين المتعلم بالمعلومة، فإنها لا تثمر إلا عقليات جامدة، غير مفكرة؛ وبالتالي غير ناقدة، وهنا فإنها تكون قد ابتعدت عن الهدف الجوهري للتعليم؛ إذ إنَّها أصبحت تقبل كل ما يردها من فكرة دون مناقشة أو تساؤل وتقوم بتحويله إلى عقليات مماثلة، فتنتشر الفكرة وإن كانت عقيمة، وضارة للمجتمع، حتى تصل إلى عقلية ناقدة تتوقف معها وتبدأ في نقدها وتبيان الخطأ الذي تحتويه. لكن الدور الذي تقوم به العقلية الناقدة بعد شيوع الأفكار السقيمة ليس دوراً يسيراً وإنما هو من الصعوبة بمكان لأن العقليات الأخرى المضادة تؤمن بالمسلمات، والتبعية، ولا تريد أن ترهق نفسها بالتفكير في الفكرة..!

لهذا؛ كان من نتائج هذا التعليم أن أنشأ مجتمعاً لا يريدُ التفكير في المستقبل؛ لأنَّ التفكير في المستقبل يحتاج تصورات واقعية غير حالمة، ودقيقة غير ضبابية وهذا مرهق للدماغ، وبدلاً من ذلك تريد أن تعيش وفق البركة الإلهية ولتترك الأحوال مسيرةً تقودها كيفما أرادت..!

وكان من نتائجه عدم القدرة على مواجهة القضايا الواقعية لأنها تستلزم الحلول الصعبة، أو المواجهة الصريحة، وهذا ما لا تملكه الشخصيات التابعة بحكم أنها ضعيفة البناء، مهزوزة المبادئ!

وكان من نتائجه ترديد ذات الأفكار المتوارثة بما فيها من أخطاء ليتم توارثها من جيل إلى آخر، وكأنها تركةٌ مُقدَّسة لا يجوز المساسُ بها، وهذا أدى بنا إلى عدم مناقشة الكثير من محتويات الإرث الديني من تفاسيرَ، وفقه، وتشريعات، وروايات، في حين أنها تحتوي على الكثيرِ مما لا يتَّسق حتى مع النص القرآني وغاياته العظيمة.

وكان من نتائجه الاستخفاف بقيمة العلم والتعامل معه على أنه مجرد "شهادات ورقية" و"ألقاب شرفية" وأنه "جسرٌ" للوظيفة، و"جوازٌ" لتعديل الوضعِ المالي! لذلك؛ فرغ العلم من محتواه المعرفي السامي ليكون مجرد قشور خارجية لا تقدم شيئاً للتنمية، ولا تسهم في التقدم العصري الذي يعد الإنسان رأس المال الأثمن في عملية التطوير والتنافس.

وكان من نتائجه أن انجرف الكثير من الشباب وراء دعوات التطرف والتشدد باسم الإسلام، رافعين لواء الدين والخلافة والولاء والبراء...وغير ذلك من الشعارات التي لمَّعها لهم بعض الدعاة المتطرفون، فإذا بالشباب يمضي مغمض العينين إلى الضلالات الوخيمة غير واعٍ بالنتائج المدمرةِ من وراءِ هذه القناعات شيِّنة..!

إنَّ الدولَ التي تقدَّمتْ تنمويًّا في كافة القطاعات إنَّما كان ذلك بسبب إيمانها بإنسان يتملك أدوات النقد، قادر على التفكير والتأمل في كل ما يردُ عقله، ويصقل شخصيته، وينفع أمته، ويسهم في رقيها وتنميتها.

لقد آن لنا أن نُغير في مفهوم التلقي مع تعطيل العقل، وجمود التفكير، فما قيمة الإنسان ككائن إلا بالتفكير!! هذه هي الميزة التي وهبنا إياها الخالق القدير، وهي أن نفكر حتى أصبح التفكير بمثابة فريضة إسلامية، وما عطلها غير أولئك الذين يرون أن في تفكير الإنسان ضرراً بالنسبةِ لهم.

آن للتعليم أن يهدف لـ"تشكيل" شخصية الإنسان؛ وذلك بتزويده بالقدرات والمهارات التي تمكنه من التفكير الناقد باستقلالية من أجل أن ينشأ مبدعاً، صاحب نظرٍ مستقل، قادرا على التمحيص والتفحُّص لكل ما يتلقاه، لا أن ينجر وراء كل مؤثرٍ دون تفكير.

نُرِيدُ أنْ نَرَى أجيالاً قادرة على أن تقرر لنفسها ما تفعل، وما تأمل من طموحات وآمال تتعلق بمستقبلها ومستقبل أوطانها.

نُريدُ أنْ نَرَى أجيالاً تعي الفروقات في كل شيءٍ بعقلية نظيفة غير مشوشةٍ بالأفكارِ السقيمة، ولا مشحونة بالمسلمات المتعفنة.

نُريدُ أنْ نَرَى أجيالاً تنظرُ بإيجابية إلى المستقبل لأنها تمتلك التفضيلات المتعددة، والخيارات المختلفة.

وهذا كله سيتحقق عندما يتغيَّر مفهوم التعليم من حشو معلومات، إلى حفز عقلي يهدف لبناء الشخصية الحرة المستقلة؛ إذ إنَّ عصر القرن الواحد والعشرين هو قرن صناعة المقدرة العقلية، ومن تفوته هذه الحقيقة فسيخرج من إطار الصورة العصرية، ويبقى جامداً في صورته النمطية..!