"كنتم خيرَ أُمة" (4)

 

عمَّار الغزالي

قَبْل ما يُقارب الـ75 عامًا، أَطْلَق جوزيف شومبيتر أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، مُصطلح "التدمير الخلَّاق"، وهو فِكْرةٌ مُفادها أنَّ الأسواقَ ستجدِّد نَفْسَها باستمرار بالتخلص من الأعمالِ القديمةِ الفاشلة، وإِعَادَة توزيعِ الموارد عَلى الأعمالِ الأحدثِ والأكثرِ إنتاجية.. إلا أنَّنا ومُنذ ذَاك التاريخ، لَمْ نلحظ سِوَى تخلُّص الأسواق من سياسات سيئة إلى أخرى أكثر سُوءًا؛ لم تُفلح مُحاولات تشذيبها في جَعْلِها قابلةً للحياة؛ إذ يعيش كلٌّ منها في حزمة لا تتخلى عن مكوناتها: المافيا والوهم والفساد؛ بفعل نُفُوذ "البارونات اللصوص" الذيْن يعملون على حِماية تلك النُّظم وسياساتها؛ حتى وإن تغيَّروا، يخْلُفُهُم جيلٌ جديدٌ يُبقِي على ذاتِ الهياكل، فيبدو الظاهر تغيُّرًا في القوانين، إلا أنَّ الواقع: لا لوائح تبدَّلت، ولا سياسات تطوَّرت؛ فيبقى كلُّ شيء على ما هو عليه؛ كضمانة لاستمرار المناخ الذي يَضْمَن لهم مَزيدًا من التربُّح واستغلال النفوذ.

وصحيح أنَّ مصطلح "البارونات اللصوص" كتعبيرٍ، أطْلَقه الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت في مطلع القرن العشرين، وعَنِي به أفرادَ العائلات التي بنتْ مَجْدَها على أموال مُغتصبة أو مسروقة، إلا أنَّ قرآننا العظيم أرَّخ لأوادم هؤلاء البارونات في أكثر من مَوْضَع؛ فذاك فِرْعون الذي عَلا في الأرض، ووزيره هامان، اللذان أصبحا أيقونة تُحيل إلى الكثير من القيم السلبية كالطغيان والظلم والفساد...وغيرها من سياسات فرعونية أفاض في بيانها القرآن الكريم؛ ليس كمجرد قصة تاريخية، بل سياسة مستمرة ينتهجها "البارونات الجُدد" إلى يومنا هذا؛ ومعهما "قارون".. هؤلاء الثلاثة يُمثلون التجسيدَ البشريَّ للسلطات التي تقف في وجه الإصلاح؛ فالأول بتجسيده للحكم الاستبدادي والقوة، والثاني تجسيد للحكومة المستبدة التي تسخِّر مُقوِّمات الأوطان لخدمة رغبات "الفرعون"، والثالث مُجسِّدا لطبقة من رجال الأموال، تغافلتْ عن الأخلاق والمُثُل، وبغت بأموالها، وتسلَّطت بقُربها من مركز الحكم؛ فعاثت في الأرض فسادًا وإفسادًا.

إنَّه تاريخ مرير بنهايات أليمة، تتناسخ أحداثه بتناسخ أُناسه، ومَوَاقفه وظُروفه؛ هي "لعنة السلطة" والاستبداد بها، التي تُبقي الأفراد دائمًا على الهامش؛ تشغلهم "لقمة العيش"، فلا يجدون مخرجا سوى الغلبة على أمرهم، والعجز عن تغيير واقعهم.

وكإحدى أبرز السياسات الاقتصادية المعاصرة، ولكثرة تشدُّق البارونات بانتهاجها رغم ما أثبتته من إخفاقات متتالية، تَبْقَى الرأسمالية عنواناً عريضًا تنتظم تحته كل هذه الآفات؛ خُصوصا بعدما حاولت الهرب من شبح كارل ماركس الذي أفْرَد فصولاَ طويلة من حياته للبحث عن كيفية بناء الاقتصاد للقيم وكيف له أن يَهْدِمها!! وكيف له أن يبني ثقافة جماعية، وهو ما عظَّم سلبيات "اقتصاد الفوضى والمافيا والجريمة"؛ فاتسع الرَّتق على الراتق، بعدما غاب عن الرأسمالية مفهوم الدولة، وبدتْ العلاقات المصلحية بين رؤوس النُّظم السياسية ورجال الأعمال، في تاريخ مُمتلئ بكمٍّ هائل من المشاهد التي تكشف الجانب المافيوي في الاقتصاد الرأسمالي ككل.

وإنْ كانت الرأسمالية نظاماً اقتصاديًّا؛ فإنَّ المؤسَّسات التي تَتْبَع دُولها، وتأتمر بأمر كبرائها، تُفْرِز علامات استفهام كبيرة.. وعلى رأس تلك المؤسسات تأتي وكالات التصنيف الائتماني؛ ويُمثلها على أرض الواقع: "ستاندرد آند بورز" و"فيتش" و"موديز"، والتي تضع تصانيفها وفق مراتب تكون بمثابة إشعار أو إنذار للمجتمع الدولي ليُدرك كيف يتعامل مع الجهة المصنَّفة. ومؤسسات على هذا القدر من الأهمية، يُفترض أن تحتكم للمصداقية والموضوعية والشفافية والاستقلال، إلا أنَّ ما يَخْفَى على الكثيرين أنَّ هذه الوكالات تُتيح تقاريرها نعم بالمجان للمستثمرين، لكنها تحصل على مقابل التقييم من الشركة أو الدولة التي ترغب في إصدار سنداتها بالسوق للاقتراض؛ وهو قمَّة "تعارض المصالح" التي تنسف مصداقيتها. فخلال أزمة 2008 الشهيرة مثلا، أجمعت هذه الوكالات الثلاث قبل عام واحد من الأزمة على منح واشنطن تصنيفًا ائتمانيًّا ممتازًا ﻷوراق الرهن العقاري، وفور اندلاع الأزمة سقطتْ الأقنعة واتضح حجم التلاعب، وتسبَّب الإدراك المفاجئ لهذا اﻷمر في اندلاع أسوأ أزمة مالية منذ عقود.

وفي ظل وضع اقتصادي بهذه الحِلْكَة، تبقى طاقة نور في آخر النفق؛ وهي بَيْت القصيد في تلك السِّلسلة المتتابعة، ألا وهي العودة لأخلاقيات الاقتصاد وقيم إسلامنا المُنضبطة، التي أَسَرَتْ واضعي الخطط في دول العالم؛ فشريعةٌ عالجتْ بربانية رسالتها ظاهرة الفساد ورؤوسه؛ جديرة بأن يُستقى من تعاليمها وصفة علاج وآلية نجاة من واقع تتقاذفه المحن. وكي لا يكون الأمر مجرد تنظير، فإنَّ استحضارًا لمواقف حيَّة من تاريخنا المشرق تُبرهن صدقية الطرح وفاعليته.

ففي عَصْرِ القوَّة للدولة الإسلامية، التي كانت تمتدُّ حُدودُها من الصينِ شرقًا إلى باريس غربًا، ومن حدودِ سيبيريا شمالًا إلى المحيطِ الهندي جنوبًا، يخرج خليفة المسلمين عمر بن عبدِالعزيز باسطًا يديه بأموال الزكاة يوزِّعها، فلمْ يجدْ فقيرًا يتصدَّق عليه.. تُرى لماذا؟!!

لَقَد سَعى هذا الخليفة -كقائد دولة- إلى ضمان إعادة توزيعِ الثروة بشكل عادل؛ فمنع الأمراء وكبار رِجَالات دولته من الاستئثار بالثروات، وصادر الأملاك المغصوبة ظلمًا، فتوفَّرت حِصَصًا كافية لزيادة الإنفاق على الفئات الفقيرة والمعدمة؛ فتحققت -بمفاهيم اليوم- أسمى مَعَاني التنمية الاقتصادية القائمة على الرفاه الاجتماعي، بعدما أوْجَد لها مناخا مناسبا يعزِّز الحرية الاقتصادية المقيَّدة بضوابط الشريعة، فزادتْ حصيلة الدخل، وانتعش الاقتصاد.

إنَّها مُسلَّمةٌ في التاريخ البشري، وسُنَّة من سُنن الله في أرضه، أنْ إذَ صَلُح أمرُ الدَّولة واستقام حُكامُها، وخَضَع مسؤولوها للنهج العدالة والأمانة والنزاهة؛ فاضتْ خزائنها بالخير العميم، وفاضَ ميزانها المالي، ولم يشعر أفرادها بظلم ولا قهر، ولم  تُهْمَل مَصْلَحة من مَصَالحهم؛ فمن لا يذكر قصة يوسف -عليه السلام- الذي أجرى الله على لسانه الحكمة، فأنقذَ مِصْرًا من مجاعة محقَّقة، بفعل كلمة واحدة: "إنِّي حَفِيْظٌ عَلِيْم" حفيظ للخزائن، عليم بوجوه مصالحها.. وهكذا؛ تبقى ميزانية الدُّول وفوائض خزائنها مرآة عَدْلِها وجُوْرِها، ونظامها وفوضويتها

ammaralghazali@hotmail.com.