محاسبة الوزراء!

 

د. سَيْف المعمري

لم تكُن جلسة مجلس الشورى مع مَعَالي وزير الزراعة والثروة السمكية، جلسة عادية كبقية الجلسات؛ وقد يعتقدُ البعضُ أنَّ ذلك سببه الحرفية التي عُقِدَت فيها الجلسة؛ حيث كان الرأي العام مشحونا بالكشف عن عدم صلاحية بعض الفواكه والخضار للاستهلاك الآدمي نتيجة استخدام العمالة التي تُدِير المزارع العُمانية حالياً لمبيدات محظورة، وهو حادثٌ قاد إلى مَوْجَة انفعالية وطنية على أوضاع الزراعة في البلد.

وقد تزايدتْ تحديات الزراعة، وقلَّت معها الثقة، في اعتبارها نشاطا يُمكن أن يُسهم في التنويع الاقتصادي، أو أن يحقق مُتطلبات الأمن الغذائي. ولكن رغم أنَّ مثل هذه المعطيات كافية في كثير من الدول الديمقراطية لجعل الجلسة البرلمانية عاصفة، إلا أنَّ هذا لم يكن هو السبب، إنما كان شيئا آخر يرتبط بمستوى الثقافة السياسية للمواطنين، ويرتبط أيضا بنيَّة الحكومة وكيفية تعاطيها مع المسؤوليات المنوطة بها، في حال ظهرتْ جوانب تقصير بنيوية في أدائها مجتمعة بشكل عام أو في أداء وحدة من وحداتها. والسؤال الذي طُرِح في أكثر من مقال خلال الأسابيع الماضية: هل يُقدِّم الوزراء استقالتهم استجابة واحتراما لغضب الرأي العام الذي يرى تقصيرهم في جوانب حساسة مُتعلقة بصحة المواطن وغذائه، أو في تعليمه أو في إدارتها للمال العام؟! أم أنَّ الأمر يتطلَّب من المجلس البرلماني حجب الثقة عن وزير معين؟ والسؤال هو: هل يملك المجلس مثل هذا الحق؟ سؤال ثالث يطرح في هذا السياق هو: هل تعد المطالبة باستقالة وزير بجوانب تقصير متعلقة بوزارته علامة عدم احترام للحكومة، يُدان صاحبها ويُنْتَقد؛ لأنَّ أداء الحكومة لا يجب أن يكون خاضعا لمثل هذه التقييمات؟!

حقيقة.. فإنَّ التطلع للانطلاقة الكبرى التي عبَّر عن معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في إحدى البرامج التليفزيونية، تتطلب طرح هذه الأسئلة وأكثر، والمضي في النهج المتدرج لترسيخ الثقافة السياسية القائمة على المسؤولية والمحاسبة، كما تحتم أيضا الانتقال النوعي في التعاطي مع الوظيفة العمومية، خاصة تلك التي تكون مرجعية -كالوزارات- في تحمل مسؤوليات دوائر صغرى تتوزع في أنحاء البلد، والظروف التي نمر بها والتي تتطلب إنجازَ ما لم يُنجز من قبل بطريقة احترافية تقوم على النوعية وانخفاض الكُلفة.

إذن؛ إذا كانت هذه المعطيات الموضوعية في اللحظة الراهنة، فلماذا انتُقد سعادة عضو مجلس الشورى بحدة حين طالب معالي وزير الزراعة بالاستقالة؛ باعتبار أن الزراعة تمر بمنعطف خطير يجب أن يتحمل أحد مسؤوليته عنه؟ ولماذا رد معالي وزير الزراعة برد لم يكن أحد يتوقعه من وزير يجلس على منصة المجلس؟ هل لذلك علاقة بالثقافة السياسية في البلد التي تقول في أول أبجديتها إنَّ الوزراء لا يستقيلون تحت أي ظرف كان. الواقع يقول إنه لم يحصل -في حدود علمي- في تاريخنا السياسي أنْ استقال وزير من منصبه، أو خرج للرأي العام معتذرا عن تقصيره أو أخطاء وزارته، حتى وإن كان الثمن الوطني لهذه الأخطاء فادحا ومكلفا.

فعدم الاستقالة قد يعني عدم الشعور بالمسؤولية عن الأفعال، أي أن الوزير لا يشعر نفسه مسؤولا عن أخطائه، وقد يبرر البعض ذلك بعدم وضوح المسؤولية وتشتتها في العمل الحكومي؛ فحين يفشل مشروع تحمِّل كل وزارة الفشل على عاتق وزارة أخرى، لكن لا أحد يفكر في الاستقالة كما يحدث في الدول الغربية، التي يدرك فيها الوزير مسؤوليته أمام الشعب، وأن أي تقصير بسيط يدفعه مباشرة إلى الاستقالة، وحتى بعد استقالته قد يحاكم، ولا أحد يستثنى من ذلك -وزيرًا كان أو مسؤول- فالكل يعمل في إطار من المسؤولية التي ترتبط بالحرص على الأهداف الوطنية.

وعودة إلى موقف عضو مجلس الشورى وردة فعل معالي الوزير؛ نجد أن كثيرا من المعلقين في شبكات التواصل بما فيها الواتساب، كانوا يقفون مع معالي الوزير في رده الذي وصفوه بأنه أفحم به عضو مجلس الشورى الذي كان يستجيب في نقاشه لغليان الرأي العام، بل إنَّ البعض ذهب في خطابه إلى ما هو أبعد؛ حيث وصف مثل هذه المطالبات بعدم الاحترام لأصحاب المعالي الوزراء! لأنَّ الثقافة السياسية المترسخة لا تعترف بأحقية مجلس الشورى في محاسبة الحكومة، وأعضاء الحكومة يتصرفون وفق هذا المعتقد؛ حيث ينظرون لمثل هذه الدعوات بأنها منفرة لهم من الذهاب إلى مجلس لا يجيد أعضاؤه لغة التخاطب مع الحكومة؛ ويعتبرون أنَّ أي نقد لوزاراتهم هو نقد لشخوصهم؛ لذا لا يمكن للوزير التفريق بين صفته كوزير مسؤول عن وزارة تقوم بمسؤوليات وطنية وبين صفته الشخصية كإنسان، لذا كان رد معالي الوزير وفق هذا المعتقد؛ حيث ذهب للدفاع عن استحقاقه بالوزارة، نتيجة الدور الوطني الذي قام به ويعرفه الجميع، ووصف نفسه بكلمات تشير إلى ذلك؛ وهو رد حين يظهر على منصة المجلس من أحد أعضاء السلطة التنفيذية يجعلنا نتوقف كثيرا؛ لأن ذلك يعني أنْ لا حق لأعضاء المجلس بمطالبة الوزراء بالاستقالة، والأمر نفسه ينطلق على المواطنين الذين انتخبوهم للقيام بهذه المهمة السامية والرسمية نيابة عنهم، إن ظهر هناك تقصير يعرض المصالح الوطنية العليا للخطر.

إذن؛ ما الدور المتوقَّع من مجلس لا يستطيع المحاسبة ولا التشريع لها؟ وكيف له أنْ ينال ثقته في المستقبل إنْ لم توسَّع صلاحياته الرقابية لضمان قيام المؤسسات بمسؤولياتها على أفضل وجه؟

إنَّ مُعَالجة هذه المسألة على قدر كبير من الأهمية؛ لأنَّ غياب ثقافة الاستقالة يعني رفض ثقافة المسؤولية والنقد والمحاسبة، وهذه وظائف عامة. ومن المفارقات الغريبة أنْ نجد الوحيد الذي يمارس فعل الاستقالة حفاظا على صالح العمل هو المواطن؛ سواء كان القرار اختيارا أم إجبارا. ونحن نعلم أنَّ تأثير موظف بسيط لا يعادل تأثير منصب وزير، لذا من المهم تحديد واضح للمسؤولية في الأجهزة الحكومية. بعبارة أخرى، توافر إجابة واضحة لسؤال مهم وهو: من فعل هذا؟ حتى يحاسب في إطار مسؤوليته، وأيضا البدء في الاهتمام بمعيار الجدارة والاستحاق، وتطبيقه على الوظائف الدنيا والعليا؛ علاوة على تحديد الفترة الزمنية للوزارة والتجديد وفق مؤشرات الإنجاز التي يُشرك مجلس الشورى في مراجعتها مع الجهات المعنية، وكل ذلك لا يغني عن إضافة مواد دستورية تبلور وتنظم هذه المسألة.

إنَّ ما طُرِح في هذا المقال انطلق من التوصيف الذي أطَّره صاحب الجلالة السلطان المعظم للهدف من المسؤولية الحكومية في أواخر السبعينيات في 15 مايو 1978، حين قال مخاطبا أعضاء حكومته كلاماً يستحق أنْ يكتب بماء الذهب في مدخل كل مؤسسة حكومية: "يجب على جميع المسؤولين في حكومتنا أن يجعلوا نصب أعينهم أنَّهم جميعا خَدَمٌ لشعب هذا الوطن العزيز، وعليهم أن يؤدوا هذه الخدمة بكل إخلاص، وأن يتجردوا من جميع الأنانيات، وأن تكون مصلحة الأمة قبل أي مصلحة شخصية؛ إذ إنَّنا لن نقبل العذرَ ممَّن يتهاون في أداء واجبه المطلوب منه في خدمة هذا الوطن ومواطنيه، بل سيَنَال جزاء تهاونه بالطريقة التي نراها مناسبة".