في بلاد القدّيس جورج (4)

 

 

د. محمد بن حمد العريمي

نصل إلى الحارة المعلّقة في طريقنا إلى قلعة ناريكالا الشهيرة بعد أن صعدنا سلّماً حديدياً من جهة الكوبري الصغير المطلّ على الشلّال. تتميّز الحارة بإطلالتها الجميلة على المدينة، ونظافتها الشديدة، وحسن تنسيق بيوتها، وتذكّرني طريقة تصميمها، وتداخل بيوتها، ووجود سكك ضيّقة تربط بين أجزاءها بالحارات العمانيّة في مسفاة العبريين، وأودية مستل وبني خروص وغيرها مع فارق التنظيم والتنسيق والاهتمام الحضاري، لدرجة أن بعض السكّان قد حوّلوا بيوتهم الصغيرة إلى نزل فندقيّة يمكن استئجارها والإقامة فيها لما تتمتّع به من موقع مناسب، وإطلالة جميلة، ونظافة شديدة!

ومع أنّه يمكن الوصول إلى القلعة الواقعة أعلى الجبل من خلال التلفريك التي يربطها بالأماكن السياحيّة الأخرى القريبة إلا أن الرغبة في اكتشاف المكان، وروعة الطقس، وجمال المناظر المحيطة جعلتنا نصرّ على الصعود مشياً للحصول على أكبر قدر من المتعة، ولالتقاط أكبر كميّة من الصور التي تجد طريقها في التوّ واللحظة إلى أماكن وقنوات تواصل عديدة، حتى نصل أخيراً إلى القلعة التي يقال إنها شيّدت في القرن الرابع الميلادي والرابضة على تلّة عالية تطلّ على المدينة ونهر متكافري، والتي تعدّ اليوم من أبرز معالم الجذب السياحي في تبليسي على الرغم من تهدّم بعض أجزاءها بسبب زلزال مدمّر قبل حوالي قرنين من الزمان.

بعد جولة قصيرة داخل القلعة التي تشكّل جزءاً من تاريخ أوروبا في العصور القديمة والوسطى؛ عصر سطوة الكنائس والقلاع والفرسان والإقطاع والغارات، وهرباً من برودة الجوّ الذي اعتقدنا أن الملابس الخفيفة التي نرتديها قادرة على قهره ونحن الذين لم نجرّب العيش وسط درجات حرارة تقل عن العشرين إلا فيما ندر، نهبط عائدين إلى أسفل التلّة حيث المدينة القديمة، وحيث المقاهي الدافئة لنجد أنفسنا في كوبري (متيخي) الذي يعبر نهر متكافري. مدفوعين بحب الاستطلاع، نواصل المشي حتى آخر الكوبري ثم نستدير يميناً لنجد أنفسنا أمام تلّة أقيمت عليها كنيسة (ميتيخي) أحد أشهر كنائس تبليسي التي لا تعدّ، وبجوارها تمثال كبير للملك الجورجي (كنج فاكتانج جورجيشلي) وهو يمتطي حصاناً، والذي يقال إنه هو من أنشأ العاصمة تبليسي، وأول من اعترف بالكنيسة الأرثوذكسيّة في جورجيا. نلتقط بعض الصور قرب التمثال جاعلين من الكنيسة خلفيّة تاريخيّة مناسبة. يعيدني المشهد إلى سنوات عديدة مضت عندما كنت أدرس تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ضمن مقررات تخصّصي. حينها كان الأستاذ العظيم محمد محمد أمين يتفنّن في تقريب المشهد لنا بحيث يبدو كشاشة عرض سينمائية لأحد الأفلام التي تؤرّخ لتلك الحقبة!

نعود مرّة أخرى إلى شارع (كوت أفخازي) الذي يربط المدينة القديمة بميدان الحريّة، ومنه نواصل السير في اتجاه آخر حتى نصل إلى مدخل جسر السلام أحد رموز تبليسي السياحيّة والذي لا يمكن لسائح أن يزور المدينة دون المرور عليه والتقاط الصور فيه. يعدّ هذا الجسر الذي يبلغ طوله حوالي 150 متراً والمخصص للمشاة تحفة معمارية رائعة، بل هو أقرب إلى لوحة فنيّة ضخمة بهيئته الجميلة على شكل قوس متعرّج مبني من الزجاج والفولاذ. ما يميّز الجسر عدا تصميمه الجذّاب هو موقعه الساحر فوق نهر كورا الذي يخترق العاصمة، وإطلالته الجميلة على العديد من المزارات من قلاع وقصور وكنائس وحدائق وغيرها، وربطه بين جانبين من المدينة أحدهما يمثل الأصالة والتاريخ، بينما يرمز الآخر إلى المعاصرة والحداثة من خلال المباني العصريّة، ومظاهر المدنيّة المختلفة!

قبل صعودنا درجات السلّم المؤدية إلى مدخل الجسر تستوقفنا بكل شياكة بائعة عصير رمّان تقف على مدخل الجسر حيث الكلّ يعرض سلعه وخدماته بطريقة لا تسبب الإزعاج، ولا تثير الامتعاض كما نرى ذلك في أماكن سياحيّة أخرى في عالمنا العربيّ. يقترح عليّ أحمد أن نجرّب كوباً من عصير الرمّان ولنعتبرها جزءاً من محاولاتنا لاكتشاف البلد اجتماعياً، ثم إننا نرى باعة العصير في كل ميدان نمر به، وأمام أيّ معلمٍ سياحيّ نقترب منه، فلماذا لا نجرّب، خاصةً وأن البلد مشهورة بفواكهها اللذيذة، وهم هنا لا يضيفون للعصير 54678345 ملعقة من السكّر، والثلج، والحليب، والفيمتو في كل كأس عصير كما تفعلها محلات عصير أعرفها جيّداً. نطلب من البائعة المهذّبة كوباً متوسّطاً بسبعة لاريات لكل منّا، نشربها وسط مقاومة ملحّة لحالة بكاء انتابتني بسبب لذّة الطعم أولاً، وندماً على لحظات التعالي السابقة صباح اليوم مع باعة العصير الذين مررنا بهم في المدينة القديمة!!

وسط تيّار هواء بارد اضطرّني لخلع (الكاب) والنظارة الشمسيّة التي أرتديها، نعبر الجسر الزجاجي وسط مناظر خياليّة زارتني كثيراً في أحلامي قبل هذا اليوم، وكنت أدعو الله أن أراها يوماً ما ضمن أحلام أخرى ستتحقق خلال هذه الزيارة من بينها رؤية الثلج الأبيض، والسير عليه! ها هو النهر يخترق المدينة كثعبان (بوا) ضخم يعتصر ضحيّته، وذاك هو القصر الجمهوريّ أعلى تلك التلّة التي تشرف على النهر، وتلك هي حديقة متاتسميندا بارك ببرجها شاهق الارتفاع تطلّ من أعلى الهضبة. نصل إلى نهاية مسار الجسر لنجد أنفسنا وسط حديقة (رايك) التي تشكّل ميداناً واسعاً يحتضن العديد من البشر الذين أتوا يوم الإجازة الأسبوعيّة للاستمتاع بممارسة الأنشطة المختلفة ما بين تأمّل، واسترخاء، وتصوير، وملاحقة فراشات، والتعبير عن بعضٍ من حالات الرومانسيّة لدى فئات من الشباب! نلمح وسط الحديقة مبنى التلفريك أو الترام الجوّي الذي يربط بين المعالم السياحيّة القريبة، والذي منه يمكن أن تنطلق تجاه قلعة ناريكالا، أو (أم الجورجيين)، أو الحديقة النباتيّة، أو تستمتع برؤية المدينة من أعلى والنهر يخترقها مشكّلاً لوحةً بانوراميّة رائعة. نأخذ دورنا وسط طابور صغير من الزوّار أغلبهم من الجورجيين، حيث أن موسم السياحة الصيفيّ لم يبدأ بعد، كما أن اليوم هو الأحد، وهو يوم الإجازة الأسبوعيّة هنا، فمن الطبيعي أن ينتشر الناس في الحدائق، والميادين، والأماكن السياحيّة المختلفة. نقطع تذكرتين بسعر ثلاثة لاريّات لكل منّا (حوالي نصف ريال) ثم نركب إحدى عربات الترام النظيف كقلب مؤمن، ليحلّق بنا عالياً نحو معالم أخرى رائعة ستكون لنا معها وقفة قادمة.

 

Mh.oraimi@hotmail.com