متى وكيف.. يمكن إعفاء المسؤول؟

د. عبدالله باحجاج

هذه القضية التي يطرحها عنوان المقال ينبغي النظر إليها من منظورين: دستوري، وسياسي، في ظل تأسيس مرحلة وطنية جديدة، غير مسبوقة تحت ضغوطات مالية ناجمة عن الأزمة النفطية، إذ لا يعقل أن تقتصر مرحلة التأسيس على إعادة هيكلة مالية الدولة بمعزل عن معرفة مدى أهلية المسؤولين لهذه المرحلة الجديدة، وفي الوقت نفسه صناعة نخب جديدة لها، برؤية الإحلال الممنهج العميق، وهذه القضية لا تقل شأنا، ولا أهمية، عن وضع الخطط والإستراتيجيات التي تؤسِّس لنا مَصَادر دخل مستدامة للتنمية، بعيدا عن تقلبات السوق النفطية وعوامل تأثرها بالأبعاد الجيوسياسية.

بل إنَّنا نراها تشكِّل ثنائية متلازمة للنجاح أو الفشل -لا قدَّر الله- فالقضية المعاصرة التي تطرح نفسها الآن بإلحاح، تكمُن في مَدَى أهلية المسؤولين في تنفيذ الخطط والإستراتيجيات الجديدة الوطنية والقطاعية على حدٍّ سواء، وفي حالة فشلهم -افتراضا- كيف، ومتى ينبغي أن يعفوا من وظائفهم؟ ومِنْ قبل مَنْ؟

 

* شرعنة الإعفاء من المنظور الدستوري:

المتأمل في مواد كثيرة في النظام الأساسي للدولة، سيخرج منها بإشارات واضحة على شرعنة الإعفاء، وضروراتها الدستورية. وهنا سنستدعي المادة (15) من الباب الثاني المتعلقة بالمبادئ الموجِّهة لسياسة الدولة؛ حيث تنصُّ على "إقامة نظام إداري سليم يكفل العدل والطمأنينة والمساواة بين المواطنين، ويضمن الاحترام للنظام ورعاية المصالح العليا للوطن". حسنا؛ إذا لم يلتزم المسؤول بتحقيق هذه المصالح، كيف يُمكن إقالته، ومتى؟ قد تأتي الإقالة سياسيًّا، ولو متأخرة، لكن المرحلة الوطنية الجديدة تحتم أن تكون هناك إجراءات وأدوات أخرى منتجة للإقالة أو داعمة لها، وفي وقتها المناسب، وكذلك نستدعي هنا المادة (12) المتعلقة بالمبادئ الاجتماعية التي تنصُّ على أنَّ "الوظائف العامة خدمة وطنية تناط بالقائمين بها، ويستهدف موظفو الدولة في أداء وظائفهم المصلحة العامة، وخدمة المجتمع ...". والتساؤل يطرح هنا كذلك: إذا لم يستهدف بعض موظفي الدولة المصلحة العامة وخدمة المجتمع، فهل يظل هذا المسؤول في منصبه، وإلى متى؟ ولنا في تجربة الرِّهان على بعض المسؤولين في تنفيذ رؤية "عمان 2020"، مثال نموذجي لهذا الطرح، وكذلك نستدعي المادة (11) الخاصة بالمبادئ الاقتصادية التي تحصر هدف الاقتصاد الوطني في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ بما يؤدي إلى زيادة الإنتاج، ورفع مستوى المعيشة للمواطنين..إلخ، والتساؤلات التأملية سالفة الذكر تطرح هنا كذلك في حالة الإخفاق في تحقيق هذين الهدفين الدستوريين؟

والنجاح والإخفاق، مسألتان واردتان في التجارب البشرية، وقد أحسن المشرِّع الدستوري العُماني صُنعا عندما حدَّد الهدفَ من الاقتصاد بتحقيق هدفي التنمية الاقتصادية والاجتماعية وزيادة الإنتاج ورفع مستوى معيشة المواطنين، وكذلك تحديد الهدف الإستراتيجي من إقامة النظام الإداري، وهو رعاية المصالح العليا للوطن، وكذلك اعتبار الوظائف العامة خدمة وطنية من أجل المصلحة الوطنية وخدمة المجتمع، وفي ذالكم تحديد دقيق لعمل وأداء المسؤولين، وفيه أيضا مرجعية لمحاسبتهم التي قد تؤدِّي إلى الإقالة أو الاستقالة، فأي أداء لا يحقق مثل تلك الأهداف يضع نفسه في مخالفة دستورية صريحة، يُفترض أن ينتفض لها مجلس الشورى بعد صلاحياته الرقابية (المحاسبة)، والتي هى بدورها تحتاج الآن إلى تفعيل إضافي جديد بعدما أفرزت مرحلتنا الوطنية الراهنة الأهمية القصوى لها.. لكن كيف؟

 

* مجلس الشورى وتفعيل حق الاستجواب:

ما طرحناه في المنظور الدستوري في جانبه النظري، له واقع مُفعَّل في جوانب مهمة، وأخرى لا تقل أهمية تحتاج لتفعيل لدواعي مرحلة التأسيس الوطنية الجديدة، وعلى وجه الخصوص في مسألة المساءلة، وما قد ينجم عنها من إعفاء المسؤول عن مواصلة مهامه، وعن طريق مجلس الشورى أسوة بما هو سائد في تجارب ناجحة اقليمية وعالمية كثيرة، والتفعيل العاجل هنا يُحتِّم إطلاق حق استجواب الوزراء من قيده المقيد بالمخالفة الصريحة، وجعله -أي حق الاستجواب- متعلقا بمراقبة أدائهم، وليس بأخطائهم الصريحة، فلن يتمكن العضو -كما قلنا في مقال سابق- من أن يُثبت المخالفة الصريحة للوزير؛ فهناك اجهزة مُتخصِّصة لم تتمكن، فكيف بالعضو أن يخترق حاجز السرية؟!! ومن هنا، نرى أن مرحلة الضرائب والرسوم على الخدمات الحكومية، وحسن إدارتها، وفي الوقت نفسه ضمان تنفيذ "إستراتيجية 2040" تتطلب إزالة هذا القيد على حق الاستجواب، وفي الوقت نفسه، إضافة فقرة قانونية أو تشديدها إن توفرت، تجرم على أعضاء مجلس الشورى الحصول على أية حقوق انتفاعية أثناء فترة عملهم البرلماني؛ وذلك لا يُؤثِّر على أدائهم البرلماني، خاصة في مجال ممارساتهم للأدوات البرلمانية التي يأتي حق الاستجواب على قمة أهميتها.

وعلى غرار تجارب عربية ناجحة، نرى أنَّ هناك إجراءات لابد أنْ تَضْمَن حقوق المسؤول في مرحلة الاستجواب؛ أولها: عدم عرض طلب سحب الثقة عن الوزير إلا بعد استجوابه، وبناء على اقتراح 10 أعضاء من المجلس وليس 15 كما هو معمول به حاليا، وأن يكون سحب الثقة بأغلبية الأعضاء، كما لا يجوز طلب سحب الثقة فى موضوع سبق للمجلس أن فصل فيه فى دور الانعقاد ذاته، ويحقُّ للوزير المطلوب حجب الثقة عنه طلب تأجيل المناقشة مدة لا تتجاوز ثلاثة أيام، كما لا يحق للوزير أو الحكومة رفض الاستجواب لدستوريته، ويقدم طلب حجب الثقة عن الوزير أو عن أحد أعضائها بصورة خطية موقعاً من خمسة أعضاء من المجلس على الأقل، وبمجرد التنصيص على حق الاستجواب بعد تحريره من القيود، وبعد منحه مصير الإقالة أو الاستقالة أو الاستمرار في المناصب، سيكون له الأثر السحري الفوري في تجويد الأداء العام، والالتزام بمسارات الإنجازات وفي آجالها الزمنية.

 

* المبررات الوطنية للإقالة/ الاستقالة في آنيتها:

هُناك حالة استياء اجتماعية عامة على أداء الكثير من المسؤولين، وقد لمسناها مُؤخرا بصورة واضحة، وقد انتقلتْ إلى اروقة مجلس الشورى بصورة غير مسبوقة، وإن كانت محدودة جدا، وهذا يعني أنَّ خيار الاستقالات قد أصبح مَطْلَبا عامًّا، قلنا في مقال سابق إنَّه يعكس لنا طبيعة المناخ السياسي الذي تعيشه بلادنا حاليا، كما يعد أحد المؤشرات المهمة على المتغيرات السياسية في علاقة السلطة بالمجتمع من جهة، وعلاقة السلطة بالنخب البرلمانية من جهة ثانية. والأهم هنا، هل ستهب رياح الاستقالات على ساحتنا الوطنية بدلا من ترقب الإقالات كما حدث عام 2011؟ وهل سيعطى لمجلس الشورى حق إقالة المسؤول؟ تساؤلان يشكلان أولوية مرحلة الوطنية الراهنة، وتجربتنا مع الإخفاق في تحقيق الأهداف الإستراتيجية للبلاد، تدفع الآن بلادنا ثمنها غاليا، وليس هناك ما يجعلنا نطمئن على تحقيق نجاح "رؤية 2040"، والهواجس الكبيرة تَسْتَدعي دائماً الإخفاق في "رؤية 2020"، ليس فيها كرؤية، وأهداف، وإنما في مجال بلورتها واقعيا وبالذات في مجال التنويع الاقتصادي، وهذه مسؤولية الأطر التنفيذية أي المسؤولين.

وهذه الأهمية الوطنية التنموية، تتقاطع مع ما سبق في مجال ضرورة إيجاد قنوات أو إجراءات تبقي المسؤول في منصبه في حالة نجاحه، أو تعفيه سياسيًّا أو برلمانيًّا، أو من تلقاء نفسه عن الاستمرار في مسؤوليته لإتاحة الفرصة لغيره في تحقيق أهداف الدولة الإستراتيجية؛ فالمسؤول مُرتبط بوظيفته في تحقيق الإستراتيجيات لا في مهمة تسيير الأعمال (نكرر) فهذه المهمة الأخيرة يُمكن أنْ تُديرها المؤسسة بنفسها، لكنَّ تحقيق الإستراتيجيات يحتاج إلى قيادات تنفيذية تملك الرؤية الاستشرافية للأهداف الإستراتيجية قبل تنفيذها، وتتمتع بالفكر النافذ على التنفيذ، والحماس الذاتي للأهداف، والجرأة المحسوبة في تذليل الصعاب التي قد تعترضها، وهذه الصفات قد لا تتوافر في الكثير من المسؤولين بدليل عدم إنجاز رؤية "عمان 2020" بالكامل، والكثير من الإستراتيجيات القطاعية؛ وذلك لغياب المساءلة التي يمكن أن تؤدي إلى الإقالة/الاستقالة.

وَلَوْ طرحنا على كلِّ مسؤول التساؤل التالي: ماذا حقَّقتم من نتائج ملموسة في تنفيذ إستراتيجيات البلاد المختلفة، كلٌّ في قطاعه، أو ما هو حجم المتحقق في منظومة مصالح الوطن المنصوص عليها دستوريًّا؟ إجاباتهم ستتوقف عليها قضية الاستقالة/الإقالة أم البقاء، ومن حُسن الطالع -كما قُلنا في مقال سابق- أنْ يتقاطع مع هذه المرحلة الاستعانة بمهندس نهضة ماليزيا مهاتير محمد للمرة الثانية، وما أحدثه من مقارنات بين إمكانيات بلادنا مع بلاده، وما كشفه من مفاصل أساسية في نجاح تجربتهم، يُعزِّز خيار الاستقالة/الإقالة كمبدأ عام، ومتاح كذلك للمؤسسة الشورية، كما أن تدخلات مهاتير -سواء في كلمته الافتتاحية في الملتقى، أو المؤتمر الصحفي- تفتح الآفاق للسلطة السياسية المركزية أو تلك المشاركة في الملتقى لما يجب عمله خلال المرحلة الراهنة، وهذه الآفاق تتعلق كذلك بالنخب الوزارية ومحيطها الإداري؛ فالنهضة الماليزية قد ركَّزت على معياريْن أساسيين؛ هما: القيم، والوزراء والمسؤولين، وهذا سر نجاحهم، وسيكون سر نجاحنا كذلك في تجربتنا الجديدة إذا ما أردنا النجاح نفسه؛ فقد قال مهاتير في هذه الجزئية المهمة جدًّا إنَّه من المهم أن تنبُع القيم من الأعلى لجعل المواطن يثق في الحكومة، وقلنا سابقا، ونكرِّرها لأهميتها، إنَّ مقارنات مهاتير بين إمكانيات بلاده وبلادنا، تُفشل حجج نخبنا التي تلوح بمحدودية نفطنا مقارنة مع دول الجوار الخليجي، ويجعلون ذلك مبررا لكل مساراتنا التنموية الراهنة؛ لذلك فقد أيقظت مقارنات مهاتير وعينا، وَرَمَت الكرة في ملعب كل مسؤول، فبدون النفط، يمكن أن نعيد صناعة قوتنا الاقتصادية، فكيف مع إمكانياتنا النفطية واكتشافات الغاز الكبيرة والواعدة؟ من هنا تبرز إشكالية التساؤل المركَّب الذي تصدَّرنا به المقال وهو: متى، وكيف يُمكن إعفاء المسؤول حال استمرار إخفاقه في تحقيق الأهداف الدستورية التي أوضحناها سابقا؟!