بأيدينا نَصْنَع الاستدامة

 

 

حاتم الطائي

عَظَّم التجاوبُ الواسعُ الذي حَظِي به مُنتدى عُمان البيئي في دورته الأولى -التي انتظمتْ واختُتمتْ، الأسبوع الماضي، تحت عنوان "التنمية المستدامة في البيئة العُمانية.. التحديات والآفاق المستقبلية"- والإجماعُ على نَجَاح أعمالِه من قِبَل المسؤولين والمختصِّين المشاركين والحضور، من مَسْؤَوليتنا في الحِفَاظ على هذا المستوى، والاجتهادِ في سَبِيْل تطوير أطروحات الحدث في الدورات المقبلة؛ ليأخُذَ مَكَانه كأحد روافد التفكير الإنمائي لتحقيق الاستدامة البيئية.

وقدَّ استمدَّ المنتدَى عَوَامل نجاحِه من هذا الدعم المعنويِّ الكبير من قِبَل المسؤولين وجهات الاختصاص؛ وفي مُقدِّمتهم: مكتب حفظ البيئة بديوان البلاط السلطاني، ومَعَالي الدكتور يحيى بن محفوظ المنذري رئيس مجلس الدولة، ومَعَالي مُحمَّد بن سالم التوبي وزير البيئة والشؤون المناخية، وأصحاب المعالي والسعادة، والأفاضل المشاركون من منظمة الأمم المتحدة، فضلا عن خُبرائنا الوطنيين الذين أثروا النقاشات بأوراق عمل نوعيَّة ومُتميزة، ونقاشات هادفة وبنّاءة، في امتزاج للأفكار، وتلاقُح للرؤى، وتبادل وجهات النظر بين المشاركين من داخل السلطنة وخارجها؛ فكان أن أثمرَ المنتدى طَرْحًا ناضجًا، وفِكْرًا رائدًا في مَجَال الاستدامة البيئية، نتمنَّى أن يُؤتِي أكله عندما تُطبَّق توصياته واقعًا يُعاش.

... إنَّ حزمة الإشكالات المرتبطة بالاستدامة البيئية، كانت محفِّزا للجنة التَّوصيات، التي انصبَّ تركيزها على تبنِّي التفكير الإستراتيجي، وإعماله في صياغة خطط المستقبل، كمناهج ودليل عمل مُحكَم، يقود نحو مستقبل بيئي مُستدام، بآليات واضحة أساسُها التخطيط المنهجي طويل المدى.

ولقناعتنا بتشابك هذه التحدِّيات، فقد تنوَّعت توصيات المنتدى بتنوُّع محاوره؛ فعلى صعيد خطط الاستدامة البيئية، كانت الدعوة لمواصلة عقد هذا المنتدى بصورة سنوية، وتوسيع قاعدة المشاركين والجهات ذات الصلة بالشأن البيئي محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، ووضع رؤية وطنية شاملة لتنفيذ البرامج الكفيلة بتحقيق التنمية البيئية المستدامة للأجيال القادمة، بما يتكامل مع الأجندة العالمية 2030، وإجراء مسح وطني لكافة الإستراتيجيات والسياسات الوطنية لتحديد مدى تناسقها مع أهداف التنمية المستدامة، وصياغة إستراتيجيات التوعية بناءً على المناهج العلمية، بُغيَة الوصول للأسباب الجذرية لضعف الوعي البيئي، واستهدافها ببرامج التوعية والتثقيف. وكذا الدعوة لإعداد مؤشرات واقعية لرصد وتقييم أداء الحفاظ على البيئة؛ بما يُحقِّق مُراقبة تنفيذ أهداف التنمية المستدامة. والدعوة لمجابهة المخاطر البيئية عبر إستراتيجيات طويلة المدى لتحقيق الاستدامة المطلوبة. وتضمين جانب الاستدامة في مُختلف الخطط التنموية والبرامج والإستراتيجيات، وإدخال الاعتبارات البيئية في مراحل التخطيط؛ بهدف الوصول لاتخاذ أفضل القرارات التنموية التي تحقق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية وبأقل التأثيرات السلبية على البيئة. وصياغة السياسات والإستراتيجيات الوطنية التي تحقق التنمية المستدامة بناءً على استخلاصات الدراسات البحثية، وحث القطاع الخاص على المساهمة بإيجابية في دعم الخطط الحكومية من خلال زيادة مناشط المسؤولية.

وفيما يتعلق بتطبيقات مفهوم الاستدامة، فقد انصبَّ اهتمام التوصيات على ضرورة تشجيع المؤسسات العامة والخاصة على خلق فرص عمل خضراء لائقة للعُمانيين، وتشجيع تدوير النفايات وتوظيف الإستراتيجيات القائمة في إدارة المخلفات الصلبة والسائلة، عبر مرافق مُتخصِّصة بمختلف المحافظات، وضمان التخلُّص الآمن من النفايات وفق أعلى المعايير العالمية، والعمل بمبدأ توفير الطاقة من المصادر الطبيعية، وتشجيع شركات القطاع الخاص على استخدام الطاقة المتجددة في المشاريع المختلفة، والاستعانة بمتخصصين يتمتَّعون بالموضوعية في مراكز اتخاذ القرار بالشركات، والعمل بمبادئ الحوكمة البيئية في كلِّ ما يتصل بالأنشطة التنموية.

وصِيْغَت توصيات المحور الثالث "إستراتيجية التوعية والتعليم البيئي"، مُنادِيَة بأهمية صياغة موجِّهات جديدة للإعلام البيئي كجزء من سياسة بيئية عامة، ترفع مستوى الوعي لدى قطاعات المجتمع المختلفة، وتتيح الفرصة أمامهم للمشاركة بفاعلية في تطوير السياسات والتدابير البيئية، وإحداث تغيير سلوكي في مواقف الناس من البيئة وتعاملهم معها، والتشجيع على تنظيم الرحلات المدرسية والأسرية إلى المحميات الطبيعية لزيادة التوعية بأهمية الحفاظ عليها، وعقد الملتقيات التوعوية في المدارس والمجالس العامة بصورة دورية للنهوض بالجانب التوعوي لدى المشاركين، ووضع إستراتيجية توعوية وتثقيفية للنهوض بإجراءات حماية البيئة ونشر المعارف الخاصة بآليات وسبل الحفاظ على البيئة وحمايتها وتحقيق التنمية المستدامة والدعوة لمواصلة جهود الجهات المعنية لنشر مظلة التوعية البيئية، وتسليط الضوء على الممارسات الخاطئة والتوعية بالعقوبات المنصوص عليها في التشريعات المختلفة، والنهوض بالمواطنة البيئية عبر زيادة الحس الوطني بأهمية الحفاظ على البيئة وصون الطبيعة من الأضرار العديدة. لتُختتم التوصيات بمحور "دور صون التنوع الأحيائي في تحقيق الاستدامة"، حيث أوصى المشاركون بدعم إجراءات صون الموارد الوراثية النباتية ذات الأهمية الاقتصادية والاجتماعية على المستوى الوطني ودعم البحوث العلمية الخاصة بالتنوع الأحيائي وتنسيق الجهود البحثية بين مختلف الجهات.

... إنَّ إنفاذَ هذه التوصيات الطموحة على أرض الواقع، لا يُمكن أن يستقيم حديثٌ عنه دون وَضْعِه في إطار "الشراكة المجتمعية" الجادة، وأنْ لا يُلقى بالكُرة في مَلْعَب الهيئات وَحْدها -حكومية كانت أو خاصة- وإنَّما الأمر يتخطَّى ذلك ليمسَّ تغييرًا جذريًّا في طريقة تفكيرنا نحن أبناء هذه الأرض العُمانية الغالية، وأعني تغيير توقُّعاتنا من أنفسنا وما نستطيع تحقيقه، تغيير قدرتنا على التحديث والتطوير والإيمان بأهمية أفكارنا لتحقيق استدامة بيئية حقيقية، وأنْ تكون لدينا جميعًا قناعة بأننا حين نخدم مجتمعنا فإنما نخدم أنفسنا، إذ إنَّ كلتيهما -المنفعة العامة والخاصة- مُخطَّطان دائريَّان يتقاطعان في مساحة أكبر بكثير مما نتصوَّر.

ويبقى القول.. إنَّنا نَعِي أنَّ الطريق نحو طليعة الاستدامة البيئية طريقٌ شاقة وطويلة، ولكننا نراهن على قدرتنا في المحاولة والنقاش المثمِر البناء؛ من أجل صياغة حاضر ومستقبل أبنائنا، وضمان حقِّ الأجيال المتعاقبة في الاستفادة من مواردنا الطبيعية ومقوماتنا البيئية بشكل أكثر عدلاً وتوازنًا.