وَصَايا مهاتير لحوكمة التنمية

عمَّار الغزالي

"العالم يتغيَّر، ولابد أن نتكيَّف مع هذا التغيير".. بهذه الكلمات اختصرَ مَهَاتير مُحمَّد ضَيْف عُمان وصانع نهضة ماليزيا، الطريقَ أمام شغف الجَمْع المشارك في فعاليات "ملتقى الدُّقم الاقتصادي الثالث"، مِمَّن توافدوا للتعرُّف عن قُرب على تجربةٍ إنمائية تحقَّقت واقعًا على يَدِ طبيبٍ ماهرٍ  أتقنَ تشخّيص المرض، في لحظة فارقة من تاريخ ماليزيا، فنقلها من دولة تعيش خارج دائرة الإنسانية حيث الفقر والجهل والمرض والتمزُّق، إلى أعلى قمَّة في هرم الاستدامة التنموية في التاريخ الحديث.

وهنا.. لا ينبغي أنْ يخرج توقيت استضافة قامَة اقتصادية بحجم مهاتير محمد عن سياق التناول؛ إذ وَصَل الرجل إلى السلطنة وهي تتلمَّس خُطواتها الأولى على دَرْب تنفيذ مُخرجات البرنامج الوطني للتنويع الاقتصادي، المُستلهم أساساً من وَحْي التجربة الماليزية (PEMANdU)؛ استنادًا للقواسم المشتركة لإشكاليات الدول النامية، والتي لم يغفل مهاتير إبرازها والتأكيد عليها خلال كلمته.

وبقدر ما حَوَته وصايا "صانع مُعجزة ماليزيا" إلى العُمانيين من إضاءات على عديد النقاط المهمة -نالت اهتمامًا واسعًا على مُختلف الصُّعد- بقدر ما لامست ألماً في النفس؛ إذ كلَّ ما أدلى به مهاتير لم يخرج عن سياق المسلَّمات التي لا يُمكن أن تُخطِئها الخطط والإستراتيجيات، خصوصا في ظل وفرة الموارد والإمكانات التي لم يُحسَن استغلالها بَعْد، ولكن كما يُقال: "أن نصل متأخرين خيرٌ من أن لا نصل أبداً". وبالمناسبة كلمات ووصايا مهاتير كانت جميعها تلمِّح لذلك، وتعكس اندهاشه من خطواتنا المتأخرة قليلاً على سُلَّم المنافسة عالميًّا رغم ما يتوافر عليه وطننا من مقوِّمات.

فالمقارنات التي عقدها مهاتير لإظهار مفارقات المشهدية الإنمائية بين عُمان وماليزيا؛ ابتداءً بالفارق بين عدد سكان الدولتين وما تتحصلان عليه من دخول إنتاج النفط، مروراً بآليات استغلال وفرة الموارد الطبيعية -مع اختلاف نوعيَّاتها- وحديثه عن نقطة مهمَّة -في رأيي كانت غائبة عن الدراسة، أو لم تنل حظها بعد- ألا وهي الاستثمار بالتعليم؛ الذي يُمكن أن يُشكل مصدر دخل حال فُتِحَت معاهدنا وكلياتنا وجامعاتنا أمام المبتعثين، وكذلك طرحه إشكال التطوير السياحي، واستغلال الشواطئ والبحار لتحويلها إلى أصول استثمارية، واستثمار حرارة المناخ لتوليد الطاقة، وخطط تطوير البُنى الأساسية في الدولتين، وفتح الأسواق أمام الاستثمار الأجنبي بما يُوفِّره من فرص مواتية للقضاء على "البطالة"، واستثمار المناخ السياسي الداخلي الهادئ والخارجي المعتدل لتكوين شراكات، كلُّ هذه المقارنات أوْصَلت مهاتير للقول في الأخير مفاخِرًا: "لقد أصبحتْ لدينا اليوم فرصَ عمل واستثمارات أحدثتْ ثورة استثمارية، بعدما استفدنا جدًّا باكتساب الخبرات وفرص العمل للأيدي العاملة الماليزية".

إنَّ أصلًا مُهمًّا انبنتْ عليه وَصَايا مهاتير للعُمانيين لا يُمكن أن يمرَّ دون قراءة؛ وهو عملية "الانتقال من أصل إلى أصل" واستغلال الموجود وتنميته، وهو ما دلَّل عليه بقوله: "عندما حل المطاط الصناعي محل الطبيعي، اتجهنا للبديل وهو صناعة زيت النخيل، وطوَّرنا صناعته من أجل تنمية بلدنا، حتى أصبحنا أكثر البلدان المصدِّرة له"، وكأنَّما مهاتير أراد أن يضع يده على جُرح "المصدر الأحادي للدخل" وأقصد النفط، خصوصاً عندما قال: "تنتقل استفادة أي بلد من الأصول والفرص والحاجات من باب إلى آخر"، مؤصِّلاً بذلك لمُفردات جديدة تُخْرِج عملية التنمية من قالبها التقليدي، إلى حيث التفكير خارج الصندوق، والاستثمار الحقيقي والجاد لكلِّ مقوِّم، وكلِّ إصبع في يد كل مواطن؛ من أجل صناعة التنمية، هذا بالطبع إذا ما كانت التطلُّعات لدينا جادة فعلاً لتحقيق استدامة عادلة.

وَكَي لا يخرج السياق عن إطار القراءة إلى مُجرد سرد لتفاصيل ما حَوَته جُعبة مهاتير محمد لأبناء عُمان؛ يُمكنني القول بأنَّ تجربة تنموية كتجربة النهضة الماليزية، وعلى الرَّغم من الصعوبات التي كانت تعترض خطواتها، وسواءً تشابهنا أو اختلافنا مع ما بَيْن سُطورها، إلا أنَّ ما ميَّزها -في رأيي على الأقل- هو أنَّ الجميع قرَّر وضع خلافاته جانباً والاهتمام بنهضة الوطن، الجميع -بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ- شارك في صناعة التنمية ووضع سياستها؛ فالحكومة آمنت بالمستقبل، والماليزيون وثقوا في حكومتهم ووقفوا خلف حُلم النهوض، والقطاع الخاص باشر مَهَامه على أكمل وجه؛ حتى استطاعتْ ماليزيا خلال عُقود معدودات أن تحقق قفزات هائلة في التنمية -بشرية كانت أو الاقتصادية- فباتت اليوم الدولة الصناعية الأولى في العالم الإسلامي، وﻛذلك الأولى في مجال الصادرات والواردات في جنوب شرقي آسيا، وحقَّقت تقدُّماً ملحوظاً في ميادين معالجة الفقر والبحث عن عمل والفساد، لذا كانت تجربتها الفائقة النجاح في مواجهة الأزمة الاقتصادية عام 1997، والتي واجهت دول جنوب شرقي آسيا برمتها، خير دليل على نجاح برنامجها والتزامها بتنفيذ خطة عمل وطنية مكَّنتها من الخروج من أزمتها المالية في فترة قصيرة جدًّا.

واليوم، ولله الحمد، أصْبَحْنَا في السلطنة نتحدَّث عن جُملة خطط وإستراتيجيات تنويع اقتصادي واعدة -إذا ما استُثمرت بالصورة التي عليها- ولكن يبقى رِهَاننا الدائم معقودًا على تحويل الاقوال الى افعال، وتحمل كل جهه تنفيذيه لمسؤلياتها، لنرى مُعجزة عُمانية تضاهي مُعجزة مهاتير، وتباريها في سباقات المنافسة دوليًّا.

ولكن، يبقى القول خِتَامًا تساؤلاً -ونحن نقرأ وصايا مهاتير، بعدما ودَّعناه ضيفًا عزيزًا وناصحاً أميناً - هل نحن مُستعدون حقًّا أنْ نُعِيْد بناء المستقبل بشراكة حقيقية وجادة يكُوْن هدفها عُمان أولاً؟! والأهم من ذلك: هل نحن مستعدون أن نحاسب أنفسنا إن حِدنا عن ذلك؟!

ammaralghazali@hotmail.com