آفاق فكرية (10)

 

د. يحيى بن عيسى الريامي

خبير في شؤون الملكية الفكرية

المرجع أطروحة الدكتوراه (الملكية الفكرية والحماية القانونية للمعارف التقليدية الموروثة - التحديات والحلول)

 

الهوية الثقافية

إنَّ مفهوم الهوية الثقافية يعرف من جهتين، الأولى خارجية بدأت في الآونة الأخيرة مع العولمة وتعددت تعريفاتها على مستوى كل المجالات المعروفة وما تمثله العولمة من محاولة لتنظيم أو إعداد نظام عالمي جديد بكل ما يترتب عليه من هذا النظام من سلبيات تطال في معظمها بلدان العالم الثالث. أما الجهة الثانية فهي داخلية وتتمثل في ندرة المقاربات العلمية والموضوعية بهذا الموضوع خاصة في دول العالم الثالث فالهوية الثقافية لا تكتمل إلا إذا كانت مرجعيتها جماع الوطن والأمة والدولة بوصفها التجسيد القانوني لوحدة الوطن والأمة وكل مس بواحدة من هذه هو مس بالهوية الثقافية.

الهوية الثقافية هي تعبير عن الحاجة إلى الاعتراف والقبول والتقدير للإنسان كما هو في تفرده وتميزه، ففي الهوية الثقافية تشتغل جدلية الذات والآخر وتعيد كل جماعة بشرية تأويل ثقافتها من خلال اتصالاتها الثقافية فيما بينها إما في اتجاه الانكماش وإما في اتجاه الانتشار، وهي تغتني بتجارب أهلها ومعاناتهم بانتصاراتهم وتطلعاتهم وأيضا باحتكاكها سلبا وإيجابا مع الهويات الثقافية الأخرى التي تدخل معها في "تغاير من نوع ما" بتعبير المفكر العربي الكبير د.عابد الجابري. إذ إنها الحد المكتسب من المعارف والتصورات والممارسات الفكرية لدى الإنسان في محيطه الاجتماعي والتي تلقاها لمصلحته ومصلحة هذا المحيط، والهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم هي القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات والتي تجعل للشخصية الوطنية أو القومية طابعا تتميز به عن الشخصيات الوطنية والقومية الأخرى.

ووفقا للعديد من الدراسات السوسيولوجية والإنتربولوجية التي تتفق على كون الهوية تُعدُّ معطى اجتماعياً يقوم على مبدأ التطابق والانسجام ويحمل دلالات التنوع والتكامل والاختلاف فإن الهوية تشتغل في التراث الثقافي كشرط وكمناخ، فهي سند الإبداع وشرط الإحساس بالذات والانتماء بل هي التعبير الصادق عن الذات في أقصى درجات انتشائها واحتفالها وهي بذلك تغدو منطلقا وطريقا وهدفا وإنها ترتكز على شعور غريزي بالانتماء والمحلية وتظهر ملازمة للثقافة الخاصة في حدود ملامحها الأصلية والأهلية التي تشكل حاملا للهوية الجماعية، أي الهوية القائمة على الإرث الثقافي والسلالة المشتركة ومن ثم فهي تساعد على اكتشاف النسق البنياني للمجتمع حتى يتحول إلى كل منسجم على مستوى الوعي.

ولكي نفهم قضية الهوية حق الفهم لابد أن ندرك أننا لا نتلقى الواقع في موضوعية مطلقة سلبية تكتفي بالرصد والتسجيل فالعقل الإنساني عقل توليدي يبقى ويضخم ويهمش ويضيف ويحذف وتتم عملية الإبقاء والاستبعاد والتضخيم والتهميش والإضافة والحذف حسب نموذج إدراكي يشكل هوية الإنسان هو في صميمه رؤية للكون، فهوية شعب ما تتشكل عبر مئات السنين من خلال تفاعله مع الطبيعة وبيئته الجغرافية ومع بني جلدته ومع الشعوب الأخرى، ولأن أعضاء هذا الشعب لا يعكسون الواقع كما هو وإنما يتفاعلون معه فعقولهم التوليدية تبقى وتستبعد وتضخم وتهمش، لذلك فإنّ هويتهم تتشكل من خلال إدراكهم لما حولهم ومن خلال تطلعاتهم ورؤاهم وذكرياتهم، فهي ليست مجرد انعكاس بسيط لبيئتهم ومن هنا تكتسب الهوية فرادتها وتركيبيتها التي لا يمكن ردها إلى قانون أو نمط مادي.

 الهوية الثقافية كيان يُصَيّر يتطور وليست معطى جاهزاً ونهائياً تُصَيّر وتتطور إما في اتجاه الانكماش وإما في اتجاه الانتشار وتغتنى بتجارب أهلها ومعاناتهم وانتصاراتهم وتطلعاتهم وأيضاً باحتكاكها سلباً وإيجاباً مع الهويات الثقافية الأخرى التي تدخل معها في تغاير من نوع ما، وتتحرك الهوية الثقافية على ثلاثة دوائر متداخلة ذات مركز واحد فالفرد داخل الجماعة الواحدة قبيلة كانت أو طائفة أو جماعة مدنية هو عبارة عن هوية متميزة ومستقلة والجماعات داخل الأمة هي كالأفراد داخل الجماعة لكل منها ما يميزها داخل الهوية الثقافية المشتركة ولكل منها  خاصية بها وأخرى من خلاله وعبره تتعرف على نفسها بوصفها ليست إياه.  والشيء نفسه يقال بالنسبة للأمة الواحدة إزاء الأمم الأخرى غير أنها أكثر تجريدا وأوسع نطاقا وأكثر قابلية للتعدد والتنوع والاختلاف. وهناك إذن ثلاثة مستويات في الهوية الثقافية لشعب من الشعوب: الهوية الفردية والهوية الجماعية والهوية الوطنية. والعلاقة بين هذه المستويات بين مد وجزر دائمين يتغير مدى كل منهما اتساعا وضيقا حسب الظروف وأنواع الصراع واللاصراع والتضامن واللاتضامن التي تحركها المصالح: المصالح الفردية والمصالح الجماعية والمصالح الوطنية. وبعبارة أخرى إن العلاقة بين هذه المستويات الثلاثة تتحدد أساسا بنوع الآخر بموقعه وطموحاته فإن كان داخليا ويقع في دائرة الجماعة، فالهوية الفردية هي التي تفرض نفسها ك أنا، وإن كان يقع في دائرة الأمة فالهوية الجماعية (القبلية، الطائفية، الخ) هي التي تحل محل الأنا الفردي. أما إن كان الآخر خارجيا أي يقع خارج الأمة (والدولة والوطن) فإن الهوية الوطنية هي التي تملأ مجال الأنا.

ولا تكتمل الهوية الثقافية ولا تبرز خصوصيتها الحضارية ولا تغدو هوية ممتلئة قادرة على نشدان العالمية على الأخذ والعطاء إلا إذا تجسدت مرجعيتها في كيان مشخص تتطابق فيه ثلاثة عناصر:

الوطن بوصفه الأرض والأجداد السابقين، أو الجغرافية والتاريخ وقد أصبحا كيانا روحيا واحدا يعمر قلب كل مواطن، الجغرافيا وقد أصبحت معطى تاريخيا، والتاريخ وقد صار موقعا جغرافيا.

 الأمة بوصفها النسب الروحي الذي تنسجه الثقافة المشتركة وقوامها ذاكرة تاريخية وطموحات تعبر عنها الإرادة الجماعية التي يصنعها حب الوطن، أعني الوفاء ل الأرض والأجداد السابقين للتاريخ الذي ينجب والأرض التي تستقبل وتحتضن.

 الدولة بوصفها التجسيد القانوني لوحدة الوطن والأمة والجهاز الساهر على سلامتهما ووحدتهما وحماية مصالحهما وتمثيلهما إزاء الدول الأخرى في زمن السلم كما في زمن الحرب. ولا بد من التمييز هنا بين الدولة ككيان مشخص ومجرد في الوقت نفسه كيان يجسد وحدة الوطن والأمة من جهة وبين الحكومة أو النظام السياسي الذي يمارس السلطة ويتحدث باسمها من جهة أخرى وواضح أننا نقصد هنا المعنى الأول، إذن فكل مس بالوطن أو بالأمة أو بالدولة هو مس بالهوية الثقافية والعكس صحيح أيضا كل مس بالهوية الثقافية هو في نفس الوقت مس بالوطن والأمة وتجسيدهما التاريخي.

y9339@hotmail.com