في بلاد القدّيس جورج (2)

 

د. محمد العريمي

أصحو مبكّراً في أول يوم لي في تبليسي متلهّفاً على اكتشاف المدينة ريثما ينتهي أحمد من إعداد القهوة العمانيّة وتجهيز التمر بأنواعه السكّري والشيشي والخلاص وهي أنواع مستوردة في بلد كانت تفتخر بالنخلة كشعار! موعد جولتنا السياحيّة يبدأ في العاشرة صباحاً وهو موعد متأخر بالنسبة لي وأنا الذي اعتدت على أنزل إلى الشارع منذ الصباح الباكر، وقبل أن تستيقظ الطيور، وكأن هناك ما سيفوتني حتى لو كنت أزور المدينة ذاتها للمرة الألف! أطالع مؤشر الحرارة فأجدها دون العاشرة في المدينة التي يعني اسمها عند الجورجيين (مدينة الدفء) وأنا الذي كنت متلهّفاً لمعانقة الربيع الذي كنت أسمع وأقرأ عن أزهاره ووروده ومروجه الخضراء في أغاني الإذاعة، ومناهج المرحلة الابتدائية دون أن أشمّ رائحة لوردة، أو ألمح أثراً لمرج، سوى رائحة الغبار، وسوى الرياح المحمّلة بالحصى والأتربة والتي تضطرك لتغطية عينيك طوال الطريق من المدرسة إلى البيت خوفاً من احمرارها دون أن تقدر على وأد حلمك في رؤية الربيع يوماً ما!

أنزل من الشقّة التي تقع في شارع سيمون جاناشيا نسبة إلى المؤرخ الجورجيّ العظيم، والمتفرّع من روستافيلي والذي تذكّرني ملامحه بشوارع المهندسين ومدينة نصر في القاهرة مع فارق رهيب في الهدوء، وصوت (الكلاكسات) والبوّابين وباعة الخبز والروبابيكيا وكل ما يمت بصلة قرابة إلى ثقافة الشوارع في مصر، والتي تعد بحد ذاتها ظاهرة لها عشّاقها ومحبّوها ومريدوها! لأهبط درجات الشارع المرصوف بحجر الإسكافي متأملاً ما حولي من بنايات ومحلات وأشجار وسط هدوء قاتل لا يبدده سوى مرور شخص أو اثنين من كبار السن يبدو أنهما اعتادا التريّض صباحاً على الرغم من أن اليوم يصادف عطلة رسميّة لأجد نفسي أخيراً في شارع روستافيلي أحد أكثر شوارع تبليسي بل جورجيا شعبيّة وشهرة.

وعلى الرغم من أن روستافيلي يعد الشارع الأكبر والأشهر في تبليسي إلا أن هدوءه لم يكن أقل من الشوارع الجانبيّة التي تتفرّع منه برغم عدد سكان العاصمة الذي يفوق المليون نسمة، وهو رقم كبير في بلد لا يتجاوز عدد سكّانها حاجز الخمسة ملايين نسمة، إلا أن هذا الهدوء قد يعد سمة ظاهرة في هذا البلد لدرجة أن أحد الأصدقاء طلب مني أن أصوّر له مقطعاً يحوي مجموعة من البشر ليتأكد من أنني لست في أحد القطبين بعد أن طغت ظاهرة الهدوء على صوري المتعدّدة التي كنت أبعثها له بين الحينة والأخرى!

وسط أجواء باردة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وملابس خفيفة لا تتوافق بتاتاً مع الأجواء المحيطة وأنا الذي تركت مؤشر الحرارة في مطار مسقط عند 41 درجة عصراً، ووسط نظرات استغرابٍ (مؤدّبة) من قبل المارّة القلائل في هذا الوقت المبكّر من صباح الأحد تجاه هذا الكائن الفضائيّ الغريب الذي يرتدي شورتاً وقميصاً فضفاضاً يصلح لكل شيء عدا اللبس في أجواء كهذه كنت أقطع الشارع الجميل الذي سمّي بهذا الاسم نسبة إلى شاعر جورجيا الكبير شوتا روستافيلي وسط حالة انبهار كبيرة، فها هي النظرة الذهنية المسبقة عن هذه الدولة تبدأ تدريجياً في التغيّر، ولم تعد الطبيعة وحدها هي ما كنت أعتقد أنه يميّزها كبلد سياحي، فعلى جانبي الطريق الذي أكتشفه لأول مرّة، والذي سأحفظه عن ظهر غيب بعد يومٍ واحد فقط توزّع العديد من عمّال النظافة الذي لا أعلم بالضبط ماذا يفعلون في شارع هو أنظف من رئة طفل، وعدا بعض أوراق الشجر المتساقطة فإنك بالكاد تلمح ورقة أو منديلاً أو ذرّة تراب هنا أو هناك، وطوال سيري كنت ألمح العشرات من المباني التاريخيّة الجميلة التي تضم مؤسسات حكوميّة، ومتاحف، وكنائس، وفنادق، ومحلات وغيرها من الأنشطة، فها هي الأكاديميّة الجورجيّة للعلوم، وهذا متحف جورجيا الوطني، وتلك كنيسة كاشفيتي، وذاك متحف سيمون جاناشيا، وها هو مبنى البرلمان بأعمدته الرومانيّة المميّزة، وساحته الضخمة، وحرّاسه الأنيقين كلوردٍ انجليزيّ. وعلى امتداد الطريق ستلمح العديد من التماثيل النصفيّة أو الكاملة لشخصيات جورجيّة عديدة، وتنتصب هنا وهناك ساعات ضخمة تنبّه الناس إلى الوقت في زمن أصبح الوقت فيه آخر اهتمامات البشر! وستلاحظ مساحات صغيرة من أرصفة الشارع يستخدمها الباعة في بيع بعض المنتجات الحرفية اليدوية والأعمال الفنية من لوحات ومنحوتات صغيرة، وستمر بالعديد من المقاعد الخشبية العامّة أو التي تخص المقاهي العديدة المتناثرة والتي تغريك بالجلوس للتأمل، أو لاحتساء فنجان قهوةٍ صباحيّ، أو لالتقاط الصور الشخصيّة التي لن تجد خلفيّة أجمل مما يحيط بك! 

وطوال رحلة الكيلو والنصف الممتدّة بين شارع كوستافا حيث يبدأ روستافيلي، وانتهاءٍ بليبراتي سكوير أو ميدان الحرية حيث سرّة المدينة، وحيث ينتهي الشارع عند الميدان الجميل الذي ينتصفه عمود رخامي يعلوه تمثال ذهبي، وتحيط به مبانٍ تاريخيّة مهمّة كأوبرا تبليسي، ومسرح الباليه، وفنادق فخمة كفندقي الماريوت وبلتيمور، شدّني من ضمن العشرات من الأمور التي أثارت انتباهي أمرين مهمّين: أولهما هو ذلك التناقض العجيب بين ثقافتين تنتمي كل منهما إلى معسكر مختلف تماماً، وهو أمرٌ سألاحظه فيما بعد عند زيارتي لمدن وأماكن أخرى في جورجيا، فطوال سيرك في الشوارع سترى سيّارات ومباني تنتمي إلى حقبة الشيوعيّة والفكر الاشتراكي، وأخرى تعبّر تماماً عن التحوّل العكسي تجاه الرأسماليّة والثقافة الغربيّة، حيث تتجاور البنايات السكنيّة الضخمة القبيحة المنظر بشققها الضيّقة والتي كانت تعبّر عن نظام التضامن الاجتماعي في مجال الإسكان زمن الاشتراكية مع العمارات الكلاسيكيّة القديمة التي أعيد تجديدها لتتحوّل إلى فروع لفنادق ومطاعم ومقاه ومحلات غربيّة، وحيث ترى ماكدونالدز مقابلاً لمطعم يقدّم أطباقاً جورجيّة وروسيّة صميمة، وحيث تقف سيّارات لادا الرخيصة وبقيّة إخوتها من منتجات المصانع زمن الحقبة السوفييتيّة مع نظيراتها الحديثة من منتجات مصانع اليابان وأوروبا والولايات المتحدة!

الأمر الآخر الذي شدّني في أول يوم لي في مدينة الدفء وسيشدّني في بقيّة المدن كذلك هو المحافظة الصارمة على المباني القديمة، بحيث يمنع هدمها وإزالتها أو استبدالها بأبراج إسمنتيّة قبيحة الشكل، بل يعاد ترميمها وتحويلها إلى مقرات لأنشطة اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو فكريّة متنوّعة، وويل لمن يخالف هذا الأمر! لذا فلا عجب أن تتحوّل شوارع تبليسي أو باتومي إلى تحفة فنّيّة رائعة بفضل الملامح الجميلة لتلك البنايات التي تتوزع على طول الشوارع الرئيسة والتي تفنّن في تصميمها عباقرة الفن المعماري في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بحيث تشعر وكأنك تتجوّل في متحف مفتوح لا مدينة حيّة، وبحيث تشعر كذلك وكأنّك في قلب باريس أو لندن أو فيينا! أعرف أماكن أخرى من خارطة العالم يتفنّن البعض فيها بهدم التراث المادّي على اعتبار أنّه يشوّه المكان، وعلى اعتبار أنّه مكان لتجمّع الحشرات والهوام والحيوانات الضالّة! وعندما تناقش بعض المتنفّذين من أعضاء برلمان أو مسؤولي حكومة حول أهميّة وجود قانون ينظّم المحافظة على هذه الشواهد، ويقنّن عمليّة هدمها، وينظّم آلية الاستفادة منها باعتبارها شواهد تاريخيّة وفكريّة وسياحيّة، ينظر إليك ببلاهة وتعجّب ولا مبالاة كعربيّ وسط حارة صينيّة ولسان حاله يقول: يا عمي روح العب بعيييد!!