مهنة التعليم: انتعاشة جديدة تُسقط كل الافتراضات

 

 

د. سيف بن ناصر المعمري

لم نَحْتَج زمناً طويلاً لكي يُعيدَ التَّاريخ نَفسَه، في الوقت الذي أعتقد البعض أنَّهم سوف يصنعون تَاريخًا مُختلفاً بناءً على افتراضاتٍ أثبت الأيام أنَّها كانت قاصرة، ولم تُبنَ على رُؤية مُستقبلية واضحة، هذا التاريخ يقودنا إلى بداية العقد الأوَّل من القرن الحالي، حيث نشط جناح ما يُمكن أن نطلق عليه "صقور التعليم العالي" في رسم مشهد مُستقبلي للتعليم العالي يقوم على إلغاء التخصصات الإنسانية بما فيها التربية والتوسع في التخصصات التطبيقية والتجارية بما فيها الهندسة وتقنية المعلومات والتجارة والإدارة، وبرروا ذلك في ذلك الوقت بأنَّه من أجل المواءمة مع سوق العمل الذي سيتغير وسوف يزداد الطلب فيه على خريجي تلك التخصصات.

 نعم اليوم تنكر كثير من أولئك لخطابهم مُدَّعين أنَّ التعليم للتَّعلم وليس لسوق العمل، وكان أن ألغيت ست كليات من كليات التربية كانت قد بلغت مرحلة مُتقدمة في تأسيسها وإكمال بنيتها التحتية، وبرامجها الأكاديمية، وأنفق الكثير على إعداد بعض الكوادر الوطنية الأكاديمية للعمل فيها، أجبرت لاحقاً على تغيير تخصصاتها إلى تطبيقية، وقيل يومها إننا لسنا في حاجة إلى معلمين إلى عشر سنوات على الرغم من ارتفاع عدد المواليد سنوياً، وتزايد احتمالات من سيدخلون الصف الأول سنويًا بمعدل يتراوح بين 35 ألفاً إلى 45 ألفاً، وبالتالي قاد سوء التقدير إلى العديد من النتائج الباهظة على سياسات إعداد المعلمين في عُمان لكن لم يرغب أحد في مُناقشة ذلك، فحين تكون الأخطاء فادحة يتهم الذين يُعيدون الحديث عنها بأنَّهم غير وطنيين، أو أنَّهم لا يعرفون ما تعرفه المؤسسات، أو أنهم يبالغون في تصوير المشهد، ويمكن أن نوجز بعضًا من النقاط المؤثرة التي قادت إليها تلك السياسات ومنها:

أولاً/ إلغاء ست كليات من كليات التربية، تقليص الكليات المعنية بالتربية إلى كلية واحدة حكومية وهي كلية التربية بالجامعة مثقلة ببرامج الدراسات العليا مع قلة كوادرها الأكاديمية مقارنة بالبرامج المسؤولة عنها، في بلد يمثل قطاع التعليم القطاع الأكثر نمواً، حيث بلغ عدد الطلبة على سبيل المثال في العام الدراسي الحالي (2016/2017) (572990)، وهو في السنوات الماضية لم يقل عن ذلك المعدل، وبالتالي قاد ذلك إلى انحسار في نسبة البرامج التربوية المطروحة للدراسة في مؤسسات التعليم العالي، وأيضاً إلى ظهور عجز في العديد من التخصصات تمت تغطيته بمُعلمين من الخارج لأوَّل مرة منذ وضع السلطنة هدفاً إستراتيجيا لها وهو تعمين مهنة التعليم.

ثانياً/ تم إسناد عملية إعداد المعلمين في بعض التخصصات إلى الجامعات والكليات الخاصة، حيث أثير الكثير من الجدل حول نوعية البرامج والخطط الدراسية المُقدمة لهم، حيث لم تتوافر حتى اليوم أية دراسات بحثية تهدأ من تلك المخاوف، في وقت كانت البلد تملك كُليات مؤسسة قادرة على قيادة زمام إعداد المعلم ببرامج موحدة تمَّ تطويرها حتى اللحظة التي أخذ قرار إلغاء هذه الكليات.

ثالثاً/ قاد ذلك إلى خسارة عددٍ من الأكاديميين العُمانيين الذين أهلتهم البلد للتدريس في هذه الكليات، حيث أجبروا على تغيير تخصصاتهم حتى تتلاءم مع نوعية البرامج التطبيقية التي أصبحت تقدمها هذه الكليات، وهي برامج بينها قدر كبير من التشابه سواء مع الكليات التقنية التي تشرف عليها وزارة القوى العاملة أو تلك التي تُقدمها الجامعة والجامعات الخاصة، مما قاد إلى تزايد في أعداد الخريجين في الجوانب التطبيقية بشكل أكبر كثيرًا من قدرة السوق على الاستيعاب، ومع ذلك لم نجد أيّاً من أعضاء ذلك الجناح ينادي اليوم بتجميد تلك التخصصات وتغيير بعض تلك الكليات إلا على استحياء حيث أخذ قرار بإعادة كلية الرستاق إلى سابق عهدها لتعمل على تقديم التخصصات التربوية، بعد أن ظهر عجز في كثير من التخصصات لم يكن مأخوذاً في الحسبان أثناء اتخاذ قرار الإلغاء.

رابعاً/ضبابية سياسات إعداد المعلم في بلد يملك أكثر من نصف مليون طالب، حيث شهدت العشر سنوات الأخيرة ركوداً في تلك السياسات، فلم نجد أيّ مؤتمر عُقد حول مناقشة تلك السياسات، والبرامج المُقدمة لإعداد المُعلمين، وكيفية العمل على النهوض بالمعلم، ولم نجد في إعلانات مركز القبول الموحد إلا نسب قليلة مُخصصة لإعداد المُعلم، مما أثار استغرابنا جميعاً، ما الذي يجري في ساحة التعليم، الساحة الأكبر للتوظيف والعمل، والأكثر تغيراً نتيجة ظروف المُعلمين والمُعلمات الذين يخرجون للتقاعد أو يمرون ببعض الظروف الخاصة.

لكن اليوم بعد تلك السنوات التي مررنا بها، تشهد برامج إعداد المُعملين انتعاشة جديدة حيث يزداد الطلب على المعلمين أكثر من المهندسين وخريجي التجارة وتقنية المعلومات، وتفتح برامج دبلوم في الجامعة والجامعات الخاصة، بل إنَّ هذا الاحتياج سوف يستمر إلى السنوات العشر القادمة، بوتيرة متزايدة تتطلب بعضًا من التخطيط من أجل عدم تكرار الخطأ الذي ارتكب في الماضي، وكانت فاتورته كبيرة لم يخرج أحد ليتحملها بشجاعة، حيث أوجد فوضى كبيرة في برامج إعداد المُعلم بعد أن كانت وصلت إلى مرحلة من التنظيم والإشراف المُباشر من الحكومة بدلاً من أن يحول كثيرا منها إلى مؤسسات خاصة داخل البلد وخارجها.

وكأحد مُؤشرات بداية انتعاش جديد لبرامج إعداد المُعلمين أيضاً زيادة عدد البرامج التي قدَّمها مركز القبول الموحد للطلبة للعام القادم، حيث تقدم جامعة عُمان بعثات في تخصصات علم النفس التربوي، واللغة الإنجليزية والتربية وتكنولوجيا التعليم، وهناك أيضًا التعليم لذوي الاحتياجات الخاصة أو التعليم لمرحلة الطفولة المُبكرة، ومن ضمن البعثات الخارجية أيضاً الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء، واللغة الإنجليزية للتعليم في المرحلة الثانوية، هذا فضلاً عن برامج علوم ورياضيات والتربية الإسلامية واللغة الإنجليزية واللغة العربية والتربية الرياضية والتربية الفنية وتكنولوجيا التعليم والتعلم وطفل ما قبل المدرسة  في كلية التربية بجامعة السلطان قابوس، وسوف تقدم كلية التربية بالرستاق برامج بكالوريوس في التربية في تخصصات اللغة الإنجليزية والرياضيات والأحياء والكيمياء، والفيزياء، وهناك برنامج آخر تقدمه كلية الرستاق لتوطين الوظائف التدريسية بالقرى البعيدة في تخصصات الرياضيات والأحياء والكيمياء والفيزياء، وتقدم كلية مزون برامج في اللغة الإنجليزية وعلم النفس، وكلية مجان في اللغة الإنجليزية، وتقدم جامعة ظفار بكالوريوس علوم في الرياضيات، والكيمياء، وعلوم الكمبيوتر، وتقدم جامعة صحار برنامج التربية الرياضية، وتقدم جامعة نزوى برامج في التربية في الحاسوب والفيزياء والكيمياء  والأحياء واللغة العربية واللغة الإنجليزية والرياضيات والتربية الخاصة ورياض الأطفال والتربية الفنية.

إنَّ انتعاشة برامج إعداد المُعلمين وزيادة الطلب على المعلمين وإن كان مؤشراً على استجابة للواقع الذي يضغط بقوة من أجل توفير مُعلمين إلا أنه يثير قلقا كبيرا جدًا من ناحيتين: الأولى مرتبطة بتنوع مؤسسات الإعداد وتنوع برامجها وهو ما قد يوجد تباينا كبيرا في مستويات هؤلاء المُعلمين، وثانيًا عدم وضوح رؤية وزارة التربية والتعليم للمناهج في المرحلة القادمة، من أجل أن تعمل مؤسسات الإعداد وفق ذلك، ولذا فإنَّ الأمر يتطلب وجود مركز وطني يعنى بوضع معايير وشروط يمكن أن تعمل مؤسسات الإعداد وفقها، وحتى يضمن أن تعمل هذه البرامج وفق مؤشرات جودة تتلاءم والطموحات والآمال الكبيرة للارتقاء بالتعليم.