شيخي لماذا عييت مخالطة البشر؟

زينب الغريبية

على زاوية من الشارع المطل على الشاطئ الممتزج برمل البحر والمحار المتشظي هنا وهناك، رأيته جالسا مطرقا رأسه، يمسح على لحيته البيضاء بيديه التي أضناها مسار الحياة، وركبتيه تسندان صدره، الذي امتلأ من فيض ما جادت به الأيام عليه، اقتربتُ منه هامسة - حتى لا أزعج البحر في حواراته مع الناس المحيطين به يشكون له ما في قلوبهم-:

  • لماذا تجلس وحيدا شيخي الوقور؟
  • إذا كنتِ تودين فتح حوار معي، فأنا لا أريد الحديث، دعيني وشأني.
  • ألا تخاطب البحر الآن؟
  • نعم.. أفعل
  • لماذا لا تشركني معكما الحديث؟ فأنا أيضا أريد الحديث مع البحر ومعك.

صمت وحملق في وجهي، بنظرات حملتني للحياة التي يعيشها كل فرد، كل من يقف بجانبنا ينظر للبحر، أو يعبر الشارع مرتجلا أو بسيارته، وكل من يقرأ الآن ومن لا يقرأ.. ثم قال:

  • ألا تعرفين كم حاجة الشخص للخلوة بنفسه في الحياة المعاصرة، كم حاجته لينزوي عن البشر الذين يتكالبون على الحياة، فيعيش الواحد يلهث ركضا وراء ما يحققه دون النظر إلى من حوله، هل تضرر؟ هل يحتاج لشيء يقدمه لأحد منهم؟
  • ألم تكن كذلك في شبابك يا شيخي؟ ألم تسعى من أجل تحقيق حياتك؟ وحفظ حياة أبنائك؟
  • سعيت برفقة إخوتي وجيراني، وتغربنا وتعبنا، لكننا عشنا حلو الحياة ومرها سويا، سعدنا لبعضنا وأحزننا مصاب بعضنا، ساعدنا بعضنا ووقفنا بجانب بعضنا، لم نسعَ لتدمير نجاح أحدنا، ولم نتضايق بسبب نجاح أبناء أحدنا، كنا نتقاسم اللقمة، والجار يقف بجانب جاره، لم نتباه بما لدينا ولم يكن لدى جارنا، بل كنا نتقاسم معه ما يوجد معنا.
  • لن أجادلك يا شيخ، فالمادة طغت على قلوب البشر، وجعلتهم يتكالبون على اللهاث لزيادتها والتباهي بها، وإظهار تفوقهم من خلالها على من لا يملكها، أو لا يملك نفس قدرها.
  • إذن أنت تشاركيني في أن البشر تغيروا، عن سابق العهد، فمهما علا أحدهم فهو يشعر أنّه لا يملك شيئا قد يتفوق عليه به آخر فيحسده، ويتربص به ليسقطه أو يشوه ما يقوم به من عمل، لا يسمح الكبير للصغير بالصعود، خوفا من أن يقاسمه الرزق، فهو لا يعلم أن الرزق لا يقسم، بل كل واحد له رزقه حسب جهده وسعيه وذكائه في قيادة مشوراه.

تنهد الشيخ، وكأنّه أخرج كومة من القتامة من قبله، ليلقيها على البحر، فالبحر أوسع من أن تغيّره تنهيدة مليئة بهموم سنين، شاح بوجهه حتى لا أرى الدموع التي ملأت عينيه، دموع لا تحمل همّه كفرد، فقد أخذ من الحياة وأعطى، وقضى معظم عمره، وما تبقى يستطيع تدبير حياته فيه، إلا أنّه يشعر بما حوله، يشعر بالتمزّق المغلف الذي يعيشه المجتمع، تمزق حتى في العائلة الواحدة بين الإخوة إلا من رحم ربي، ثم عاد ونظر في عينيّ مُكملا:

  • عندما رحل كل أصحابي ممن هم في جيلي، عشت وحيدا لم أجد من يفهمني ممن حولي، صحيح أن أرضا واحدة تجمعنا، وسقفا واحدا يظلنا، ونحمل عنوانا لوطن واحد، ونلبس زيا واحدا، ونحتفل بمناسبات واحدة، نصوم سويا ونُعيّد سويا، لكنّهم تغيروا عنّي في أشياءً كثيرة، لا يحملون همّي لسلامة أجيال لاحقة، ولا يحملون قيمي ولا مبادئي، تشتت قلوبنا، ودبّ بينها التحاسد، وعرقلة الناجح، وظلم المسكين، وتقديم صاحب الثروات، حتى لو لم نستفد منه في شيء.

نهض من مكانه، يتكئ على عصاه التي تحمل ثقل جسمه لينهض عليها، ويقدمها على رجليه لتكون هي قائدة لهما، تحمل أكثر من حملهما، دخيلة عليه في زمن أخذ قوته، وصحته كما أخذ من حوله ممن عاش معهم يحملون ما يحمله، مضى نحو الطرف الآخر من الشارع، ثم دار برأسه لينظر لي من بعيد، فابتسمت بوجه ابتسامة مرتجفة، تحمل وداعا وغصة مغلفة بالمواساة الظاهرية التي لن تغير من الأمر شيئا.

أكمل طريقه وأنا أرقبه بعينيّ من بعيد أودع بها زمنا كان الناس فيه قليلو العلم والمعرفة، لا يملكون الاستقرار الأسري والنفسي، كثيرو العمل والإنتاج، لكنّهم كانوا بذلك أسعد معا من حياة بشر تحفهم الماديات وترهقهم المظاهر، ويسيطر عليهم التحاسد، وتفرقهم المناصب، وتلهيهم الحياة عن قيمهم ومبادئ حياتهم الحقيقية.

اذهب يا شيخي فلن ألومك، إن كان البشر من حولك قد أرهقوك بما يصنعون، اذهب واستعد ذكرياتك وعش بداخلها، وارحل معها واترك لهم الحياة، لتحتفظ بنقائك.