إنّما الأمم الأخلاق

عبدالله العجمي

"اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً" مثلٌ عامّي تلهج ألسنتنا بذكره كلما أردنا الإشارة إلى أنّ التجربة خيرُ برهان، وأن فكرة المُجرِّب كونها واقعاً عايشه؛ بينما "الطبيب" فإنّ فكرته تكوّنت من خلال قراءته لتجارب غيره؛ فليس من سمع كمن رأى.

فمثلاً لو أننا أسهبنا في وصف عطر معيّن وكتبنا عنه ألف موضوع وألف كتاب في وصفه لما استطاعت كل تلك المؤلفات أن تختزن في دواخلنا رائحته؛ بينما لو انطلقنا في وصفه من شمّة لذلك العطر لينطلق الوصف من إحساس به فهنا يتجسد معنى ذلك المثل الذي استهللت به هذا المقال؛ هكذا هو الوعي.

فعندما نريد الحديث عن الوعي، الذي هو نتاجٌ خليطٌ بين الثقافة والتجربة ليتمثل لا شعورياً في الإحساس بالمسؤولية، فالوعي ليس قالباً يُصنع؛ ولكنه سلوك مُعاش، فلربما نجد أمامنا رجلاً يحمل من الشهادات ما تصرخ الجدران بثقلها لكن لا وعي لديه؛ في المقابل ربما نصادف إنساناً أمّيَاً بسيطاً ولكنه يجسّد أسمى قِيَم الوعي، جلّ ما في الأمر أنّه ارتبط بحركة الحياة وتشكل الوعي لديه من كل ما يواجهه فيها، فكل موقف يصادفه يزيده وعياً فوق وعيه، فكم تحتاج منا الحياة تحديقاً بواقعها أكثر من قراءة الكتب التي تتحدث عن هذا الواقع!..

لستُ بصدد التقليل من أهمية القراءة، فالكتب هي خلاصة تجاربٍ لأشخاص عايشوا كل قضايا مرتبطة ولصيقة بهذه الحياة، لكنها لا تعتبر -أي الكتب- بديلاً عن التجارب الحية، ولعل المشكلة التي يقع فيها الكثير من المثقفين أنهم يصنعون منهجيتهم وتعاطيهم مع مختلف مواقف الحياة من خلال ما يقرؤونه، فبعد تشبّعهم من تلك النظريات نراهم ينظرون للحياة والإنسان من مكانٍ عالٍ، فيتصوّرون أنّهم أرقى وأفضل وأعلى من بقية الناس؛ لكنهم نسوا أو تناسوا أنّ ما يُنظِّرون له إنّما هي خلاصة تجارب غيرهم لا تجاربهم.. أي أنّهم تقمّصوا شخصيات غيرهم وعاشوا أدوارهم..

وأنّ الوعي أيضاً لا يمكنه أن ينطلق من قراءة التراث أو مجرد التفكير فيه؛ لأنه - أي التراث- خلاصة تجارب الوعي لدى أناس في ظروف خاصة بهم، لذلك يجب أن ينطلق الوعي من خلال واقعنا الحالي لا من خلال واقع غيرنا ونعايش تجارب حياتنا التي نعيشها لا تجارب غيرنا، ألم تسمعوا بالمثل القائل: لكلّ زمان دولةٌ ورجال؟!

فمثلاً.. في مدارسنا يتمّ تلقين الطالب أغلب ما يحتاجه لدخول معترك الحياة من قِيم وأخلاق، ولكن الأهم من كل هذا أن نعلمه حركيّة هذه القيم وماهيّة هذه الأخلاق وذلك بتطبيقها عملياً.

نحن محتاجون إلى ثورة ثقافية جديدة.. إلى مناهج تُعلِّم الأخلاق حركيّاً لا نظرياً؛ لنحرّك هذه الأخلاق في دروب حياتنا ونمارس قضايانا والأخلاق فقط الأخلاق هي ما تحرّكنا على هذا الأرض.. نحن محتاجون إلى أن نعيش قيمنا التي طالما جاهرنا بها، ونشق طرقنا بين الأمم بروحيّة تلك الأخلاق التي يجب أن تمثل الروح الإنسانية والتي اختصر أهميتها الشاعر أحمد شوقي حين قال: "إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت/ فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا".

* رئيس لجنة الثقافة والتعليم بالاتحاد العربي الإفريقي للإعلام الرقمي