وطنية المنصب تنضب.. فلا تعجب؟!

 

 

حمد بن سالم العلوي

 

قد يلتقيك صاحب وطنية طارئة بالمنصب، ويغدق عليك بالكثير من النظريات التي تمجد الوطن، والإخلاص في العمل، فتظل فاغراً فاهك وتنظر إليه بتعجب شديد، وهو يهطل عليك بالكثير من القيم والمثاليات، فيسهب في الحديث ظناً منه أنك معجب جداً بعبقريته الفذة، وأنت فغرت فاهك لأنك عُدت إلى تاريخ ذلك الشخص، وتذكرت أيام كان صغيراً في الوظيفة الصغيرة، ووقتذاك كان يقول؛ "كلهم كذاك" وأنت ترد عليه وتحاول إقناعه بالخروج من فكرة السير مع القطيع، فتقول له، إذا هم كذلك كما تقول، فعلينا أنا وأنت أن نحمل مشعل التغيير، فيرد عليك بالقول ستتعب نفسك، وهو بقوله لك هذا "ستتعب" يعني من ذلك الكلام، أنّه قد أخرج نفسه عنك، وتركك فيما تعتقد أنه صواب، وأنه فضّل أن يكون مع الذين اختاروا الجانب السلبي، وهنا يكون مكمن العجب والتعجب.. وفغر الفاه، ذلك عندما ينقلب من كان سلبياً بالأمس، إلى وطني من الطراز الأول اليوم، فقط لأنه أصبح في منصب وظيفي جيد، ودرجة مالية مجزية.

ترى لماذا يتعامل بعض الناس بسذاجة مفرطة مع غيرهم من الناس؟! وينسون أو يتناسون ماضيهم القريب؟! وهذا ليس اعتراضاً على تغير الفكر، ولكن لا يجعل اصطلاحه مِنّة على الآخرين، إلا إذا كانوا يريدون أن يُظهروا لك، أنّهم يمثلون أدوارا مختلفة بتغير الأطوار الحياتية؟! وكأنّهم يقولون لك "كنا نتمسكن حتى نتمكن" لذلك أخفينا مشاعرنا الوطنية حتى ساعة الضرورة، وكأن لسان حالهم يقول، لو أننا لم نسلك طريق الحرباء، لما وصلنا إلى المُبتغى، وهو المنصب المنشود، والحلم الموعود الذي تحقق، أمّا أنت الذي فضّلت أن تظل شاهراً سيف الحق والعدل، فأصبر أو لا تصبر فهذا مصيرك الذي تستحق، فأعشه اليوم كمن يمضغ علكة، فأمضغ أنت علكة الحق والعدل.

طبعاً صاحب العقيدة والمبدأ، لا ولن يأسف على شيء انقضى ومضى، وإنما يأسف على حال الوطن، حينما يراه يصْغر في أعين بعض من أبنائه المترزّقين، فيرونه مجرد جاه ومنصب، ومركب عبور صغير لا يتسع لغيرهم، وينظر الآخرون إلى الوطن، على أنه العزة والكرامة، والحياة الشريفة التي لا تقدر بثمن، فيموت المواطن الحقيقي من أجل الوطن، فيحيا الوطن عزيزاً طاهراً مقدساً بدماء المخلصين، فما دامت الأوطان بعزة وشموخ لولا هذا الفكر المتقد، وتظل قيمة الوطن مقدسة ما دام هناك من يعشق تراب الوطن.

لقد كنت أتمنى على ذلك الذي أغدق علينا في المجلس - ومثله كُثر للأسف الشديد - بسيل عرم من النظريات، والتنظير في فنون الوطن والوطنية، بألا يحط من قيمة سائق سيارة الأجرة، فقد كان يسخر من قيمة المعلومات التي كانت مثار الحوار، وذلك عندما قال، إنّ مثل هذه المعلومات مستقاة من "واتساب سائق تاكسي" وكان يقصد التّسفيه بما سمع، فما علم أن الواتساب أصبح وسيلة جيدة لمن استطاع أن يظفر بحاجته منه، وأن سائق سيارة الأجرة، قد يكون أكثر منه حباً وتفانياً في خدمة الوطن، والناس يتكاملون في ما يقدمون من أعمال حميدة، وأفعال خيّرة، وجعل الله الناس سُخْرِيّاً فيما بينهم بقوله تعالى:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} صدق الله العظيم الزخرف (32).

ترى هل يستطيع هذا الذي أسميناه بالوطني الطارئ على الساحة العامة أن يحدثنا عمّا قدم وأبدع خلال حياته الوظيفية؟ أم أتى مقلداً لمن سبقوه في الوظيفة؟ فظل يحافظ على المألوف الموروث، فلن أسأله عن السلبيات، بالقول كم عقَّدتم أو طردتم أو ضايقتم من ليس على هواكم من النّاس، وإنّما سأطرح عليه بعض التساؤلات المنطقية، بالقول: كم نابغة عِلم تبنيت أثناء الوظيفة؟ وأهلته ليحل محلك ليس اليوم؟ وإنما عند تقاعدك؟ وكم من مخلص لديك في العمل أنصفته؟ وأعدلت في حقه دون أن يتملق لك؟! وما هي الإبداعات التي أبدعتها في العمل؟ وكم من عُقد أزلت من العمل الإداري؟ وكم من ساعٍ إليك لم ترده من عند باب مكتبك؟ فقط لأنه لم يتبع الأسلوب البروتوكولي المعروف؟ أو لأنه خرج عن برستيج المسؤول المهاب؟ هل فتشت أنت شخصياً خارج باب مكتبك عن أولئك الذين يصدهم الحاجب؟ بحجة أنك مشغول بما هو أهم!! وقد لا يكون ذلك الانشغال أكثر من قراءة الواتساب أو الجرائد؟

أقول لكم وأنا صادق في الذي أقول، إننا نعلم أشخاصاً مارسوا الوظيفة العامة قبلكم، وتولوا مسؤوليات مهمة يوم كانوا في الوظيفة، وكل التساؤلات التي طرحتها أجابوا عليها (بنعم) وقد كانت مخافة الله وحب الوطن، والحياء من القائد هي الشغل الشاغل لهم، والمشعل الذي أنار لهم الطريق، فأنتم متى خفتم الله في السر والعلن، وأحببتم الوطن، فإنكم ستوفون العمل حقه، وأستحييتم من القائد، وطبقتم توجيهاته كما ينبغي، وعلمتم أنّه لم يخولكم - حفظه الله ورعاه - تمثيله في سلطانه لتقلدوه في مقامه السامي الشريف، وإنما أمركم باتباع الأنظمة والقوانين التي ترتقي بالوطن، وترفع من شأنه اقتصادياً واجتماعياً وصناعياً وحتى سياسياً، ففي ذلك إنفاذ للمهمة الموكولة إليكم أيها الموظفون، وعليكم أن تعلموا أنّ كل المواطنين إخواناً لكم، فهم ينظرون إلى أعمالكم وأخلاقكم، ولا ينظرون إلى عطفكم عليهم، ذلك كقول الشاعر: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا" هذا والله من وراء القصد.