في بلاد القدّيس جورج

 

محمد العريمي

بعد فترة تردّد استمرّت لأكثر من عامين؛ قررت أخيراً الذهاب إلى جورجيا عروسة بلاد القوقاز، بعد عمليّة مفاضلة مع دول أخرى شبيهة حسمت لصالح بلاد العم جورج؛ لأسباب عدّة من بينها رغبتي في تغيير وجهتي الشخصيّة والعائليّة من شرق آسيا والبلاد العربيّة إلى أوروبّا، وقرب المسافة الزمنيّة، ورخص تذكرة السفر، وعدم الحاجة إلى تأشيرة دخول، بالإضافة إلى شهادة عدد من المعارف والمهتمين بالسفر ممن زاروا هذا البلد وكتبوا عن تجربة ايجابيّة شجعتني على أن (أعقلها وأتوكّل) كما يقول المثل العربيّ.

وعلى الرغم من تطمينات العديد ممن زار هذه الجمهورية الجبلية التي تقع على الساحل الشرقي للبحر الأسود ومّمن يعيش فيها كذلك؛ إلا أنني كنت أشعر بقلق خفيّ من التجربة، فأنا أعلم الأوضاع والظروف في بلدان جنوب شرق آسيا علم اليقين، وأحفظ بعض بلدان السياحة العربيّة ككفّ يدي، وسبق لي أن زرت تركيا القريبة وتوغّلت في مجاهل إسطنبول وبورصه ويلوا، أما جورجيا وما جاورها فمازالت معلوماتي عن أوضاعها الداخليّة شحيحة، وما زالت فكرة تأثير الفترة الاشتراكية التي امتدت لأكثر من 80 عاماً جاثمة على أفكار صدري، وما زلت أعتقد أنني سأجد مباني سكنيّة كئيبة، وحافلات نقل عموميّة عفا عليها الزمن، وأشجارٍ عارية، ورجال بشوارب كثيفة يرتدون الجاكيتات الرماديّة الطويلة، ويتلحّفون البيرية وغطاء الرأس المصنوع من الفرو ويحتسون الفودكا على الدوام!

وبرغم كل هذا التخوّف وذاك القلق؛ إلا أنّني قررت المضيّ قدماً إلى النهاية، وأن أخوض التجربة كاملة، فماذا يعني السفر دون مغامرة؟! وماذا سأترك لذكرياتي إن لم أعاني؟! ثم أليست الحياة ذاتها سوى رحلة قد تطول أو تقصر؟! و"أقدارنا بيد السماء يا نهر البنفسج" على رأي الأديب زكريّا الحجاوي!

وكعادتي في كل سفرة شخصيّة إلى بلدٍ أزوره لأول مرّة؛ حملت حقيبتي على كتفي تاركاً كل شيء للظروف برغم اطّلاعي على كثير مما يتعلق بالبلد فكرياً واقتصادياً واجتماعيّاً، وبرغم محاولتي تكوين فكرة شاملة عن الأوضاع المعيشيّة هناك، فما أروع أن تكتشف كل شيء بنفسك، وما أجمل أن تقوم بعمل المقارنات بين ما كنت تعتقده وتراه وبين ما وجدته على الحقيقة!

عند وصولي ليلاً إلى مطار تبليسي لم تستغرق مدة الانتهاء من إجراءات الدخول أكثر من خمس دقائق بالتمام والكمال قسّمت ما بين عبوري الممرّ الواصل بين باب الطائرة إلى (كاونتر) ختم الجوازات، ثم الهبوط في السلّم الكهربائي إلى منطقة أخذ الحقائب، ثم التوجّه ناحية بوّابة الخروج! دائماً كنت أقول لنفسي إن المطارات هي عناوين الدول، و"المكتوب يُقرأ من عنوانه"، وهناك من المطارات ما يجعلك تعود أدراجك حاجزاً أقرب تذكرة إلى بلدك بعد أن تعاني الأمرّين من "رذالة" موظّفيها، وعمّالها، وسائقي تكاسيها، وهناك من المطارات من يفتح لك أحضانه مستقبلاً، وترى ثغره الواسع هاشّاً باشّاً، مما يجعلك متشوّقاً لرؤية ما خلف ستار هذا المطار من بشر وكائنات وجماد، فمادام استقبال المطار هكذا، فكيف هو استقبال أصحابه لي؟!!  

وأنا في طريقي من المطار الذي يقع خارج المدينة إلى الشقّة التي حجزها لي أحد الأصدقاء في شارع جانبيّ متفرّع من شارع (روستافيللي) الذي يعدّ أحد الشوارع الرئيسة في المدينة لفت انتباهي هدوء الشوارع المبالغ فيه، وتلاشي الصّخب الذي يميّز العواصم ليل نهار، فلا تكاد تسمع صوتاً لنفير مركبة، ولا رائحة لعادم حافلة قديمة ملّت من الأنين واعتادت حمولتها الثقيلة من أكوام البشر، ولا ضجيج لموكب دراجات بخاريّة يقودها شباب يعتقدون أنهم في طريقهم إلى المرّيخ لا إلى أقرب حانة أو زقاق، وأن مهمّتهم الأساسيّة في هذا العالم هي ضخّ المزيد من المصابين بالصمم. هنا بدأ مؤشّر القلق الداخلي ينحدر أكثر فأكثر، وحذري يقلّ، وأن أيامي القادمة ستكون على الأقل هادئة إن لم تكن جميلة!

وخلال رحلة وصولي إلى الشقّة التي سأسكنها طوال مدّة إقامتي في تبليسي العاصمة، وتحديداً في أحد شوارع حيّ (فيرا) الراقي لفتت انتباهي عدّة أمور ستسهم في أن تجعلني أكثر تفاؤلاً بقضاء أوقات جميلة في هذا البلد، وأكثر تحفّزاً وانطلاقاً لاستغلال كل دقيقة هنا، فالشارع الذي تقع فيه والمتفرّع من (روستافيللي) هو شارع هادئ كعجوزٍ سبعينيّ، مبلّط بحجر الإسكافي حتى اعتقدت أنني في أحد شوارع إسطنبول لا تبليسي، تتناثر على جوانبه عدد من الأشجار بأوراقها المتساقطة التي تذكّرك بمشاهد الخريف في الأفلام الأجنبية، ويحتوي على كافّة الخدمات التي يحتاجها السائح والمقيم كالصيدليات، والبقّالات التي تعمل طوال اليوم، أمّا البناية التي تقع فيها الشقّة فهي بناية حديثة وسط عدد من البنايات ذات الطابع الكلاسيكيّ القديم، تدخلها برقم سرّي لا يعرفه سوى سكّانها ممّا يعطيك شعوراً بالأمان والاطمئنان في بلدٍ تزوره لأوّل مرّة، وصاحبتها سيّدة جورجيّة مبتسمة دائماً تحمل الجنسيّة الأمريكيّة عادت إلى بلدها بعد أن قضت أكثر من عشرين عاماً في نيويورك لتقضي بقيّة أيّامها في بلدها الأم التي هربت منه يوماً ما لتعمل ممرضة في أمريكا الرأسماليّة بعد أن كانت معلّمة في جورجيا الاشتراكيّة!! استقبلتني السيّدة بابتسامة ودودة وعرّفتني على مرافق الشقّة ثم غادرتها بعد ثلاث دقائق فقط من لقائنا بعد أن تركت عنوان الشقّة، وأكواد (الواي فاي) والبوّابة، وهاتفها الشخصيّ مكتوبة على ورقة معلّقة في ركنٍ بارزٍ من الصالة، ولم تلقِ عليّ سيلاً من النصائح والاشتراطات والتهديدات والغرامات إذا ما كسرت هذه الفازة، أو عبثت بتلك المزهريّة، أو مسست ذلك البيانو كما يفعل سماسرة الشقق في دول عربيّة أعرفها جيّداً مما يجعلك متوتّراً كقطً، قلقاً كالنابغة الذبيانيّ، تودّ لو كنت مدرّب تنمية ذاتيّة لتنام معلّقاً على الهواء خوفاً من أن تكسر السرير، بل تمنّت لي طيب الإقامة في بلدها، وأن أعتبر الشقّة كبيتي. أما الشقّة ذاتها فهي واسعة كخارطة روسيا، نظيفة كقلب مؤمن، دافئة كحضن أم على الرغم من برودة الأجواء في بلد أصرّ شتاؤه على انتظاري وهو الذي كان يعدّ العدّة للمغادرة!