حوار الشجعان بدلا من حوار "الجدشان" العربي!!

 

عبيدلي العبيدلي

لو قُدر لمؤسسة قياس الرأي أن تحدد أكثر المُفردات ومرادفاتها المباشرة لها التي سادت فضاء الأدبيات العربية السياسية خلال السنوات الخمس الماضية، فلربما اكتشفت أنَّ كلمة "حوار" أو مرادفاتها مثل "محادثات"، "مفاوضات"، هي الأعلى نسبة مُقارنة بالمُفردات الأخرى، والأكثر حضورا في الأدبيات المنشورة وغير المنشورة.

ولو ذهبت تلك المؤسسة وحاولت أن تخرج من الإطار السياسي إلى الفضاء النفسي، فلربما وجدت أنَّ الإحباط المتولد واليأس المرافق لتلك الظاهرة في سلوك المواطن العربي هو من أكثر الانعكاسات ظهورًا جراء الفشل الذي رافق نسبة عالية من "الحوارات" و"المحادثات" والمفاوضات" التي لم تتوقف خلال تلك الفترة، لكنها فشلت في أن تنجب طفلاً معافى، بل، وللأسف الشديد خلفت وراءها جيلا من المشوهين، المعاقين، هم النتاج المُباشر لجلساتها، التي لم تتجاوز ما تمخضت عنه قرارات وتوصيات جدران الغرف المغلقة التي عقدت فيها.

ودون الوقوع ضحية إحباط تلك النتائج الهزيلة، التي لم يستفد منها سوى جيوب من شاركوا فيها، يمكننا الخروج باستنتاج واحد أنها كانت عقيمة إلى درجة أنها ترغم من يتابعها على التقيؤ السياسي، والاستفراغ الفكري.

السؤال المنطقي هنا لماذا فشلت تلك المحادثات التي ادعى من دعا لها وحضر لجلساتها وشارك فيها أنه سعى مخلصاً لتوفير كل مقومات نجاحها؟

بداية لا بد من تحديد، ومن ثم الاتفاق على العوامل الرئيسة، والعناصر الأساسية التي يمكن أن تقود أي حوار إلى النجاح، من أهم تلك العناصر ما يلي:

1. اشتداد حالة الصراعات أو النزاعات إلى نقطة توصل الأطراف الضالعة فيها إلى استحالة الوصول إلى حل مرضٍ، من خلال الاستمرار في الأشكال الصدامية العنيفة القائمة، ومن ثم حاجة تلك الأطراف الرئيسة في تلك الصراعات، دون استثناء، إلى نقل صداماتهم من ساحات "الوغى" إلى غرف المحادثات.

2. صدق نوايا تلك الأطراف المتصارعة بشكل استراتيجي، وليس تكتيكي أن الطريق الوحيدة المتبقية المفتوحة أمامهم للخروج من الأزمة هي تلك التي تقودهم إلى طاولة الحوار، وليس هناك ما هو متاح سواها.

3. وضوح الأهداف الممكن تحقيقها لدى كل طرف من الأطراف المتصارعة، وهو أمر يقود إلى استعداد قبول كل منها بتقديم تنازلات معينة كي يتسنى له نيل تلك الأهداف، التي ينبغي أن تتحقق فيها الحدود الدنيا المشتركة بين أهداف كل طرف في الصراع على حدة.

4. نضج الظروف الموضوعية، المختلف عن نضج الظروف الذاتية لكل طرف من أطراف الصرع. فلا بد من أن تكون الأولى قد وصلت إلى درجة عالية من النضج، كي تسهم موضوعيا في إنجاح الصراع بدلا من عرقلته في حال عدم اكتمال نضجها أو عدم وصوله إلى الدرجة المطلوبة القادرة على إنجاح الحوار.

5. اقتناع الأطراف، بضرورة تقليص، إن لم يكن إنهاء، تدخل القوى الخارجية، لأنها مهما حسنت نواياها، تبقى هناك نسبة من المصالح الذاتية لها التي لا بد وأن تتعارض مع المصالح الوطنية العليا، التي هي مُشتركة بين القوى المحلية المُخلصة، مهما بلغت شدة الخلافات بينها.

ولو تمعنا في تلك العناصر الخمسة، لوجدنا أن شروطها شبه مستوفاة، فيما عدا وهو ثانيها، فما يبدو من سير الأحداث أن نوايا الأطراف الرئيسة ليست صادقة، بالمعيار الوطني الشامل وليس الفئوي الضيق. وهذا يفسر سبب تعثر تلك المفاوضات، وفشل تلك الحوارات. فليس هناك الجدية المطلوبة التي تنقل الحوار من منصاته المشلولة، إلى فضائه الفاعل.

عدم جدية الأطراف مصدره تمسكها بأنانية لا متناهية بمواقفها الذاتية، ورفضها التزحزح عنها من خلال مساومة منطقية تقوم على الربح المشترك بدلا من تقاسم الخسائر. ومن هنا تبرز ضرورة الانتقال من الفئوي، الذاتي المحدود إلى الموضوعي، المشترك، الرحب.

والوصول إلى مثل هذه المعادلة بحاجة إلى نضج حضاري راق، بالمفهوم المعاصر لكلمة حضارة قادر على تلمس ما هو وطني مشترك، يمكن الاتفاق عليه، والانطلاق منه من أجل الوصول إلى منصة حوار وطني ناجح.

ما نشهده اليوم هو سلوك غير جدي، بغض النظر عن نوايا القوى التي تقف وراءه، يقود إلى حوار شبيه بذلك الذي يدور بين الطرشان، ومن هنا جاء تعبير "الجدشان". والذي تتفوق فيه النزعة الذاتية على المصالح الوطنية، وتكون المحصلة النهائية حوار شبيه بذلك الذي يدور بين الطرشان، بغض النظر عن جدية المنخرطين فيه.

ويتطلب الخروج من هذه الحلقة المفرغة التي تستهلك الجهد، وتضيع القدرات، وتحرف الحوارات عن طريقها الصحيحة، أن تضع الأطراف جميعها مصالحها الذاتية جانبًا، وتستبدلها بالمصالح الوطنية العليا كي تتمكن من نقل الحوار من واقعه الموصوف بـ "حوار الجدشان" إلى ذلك المطلوب وهو حوار الشجعان.

قد تبدو المهمة مستحيلة، والنقلة محالة، لكن متى ما توفرت الرغبة الصادقة، والنوايا الحسنة، فليس هناك ما يقف دون الانتقال إلى حوار الشجعان. وهو حوار بوسعه أن ينقل الواقع العربي من حالة السكون السلبي الذي تسيطر عليه إلى مرحلة التطور الديناميكي الإيجابية التي هو في أمس الحاجة لها.

وطريق حوار الشجعان لا تختلف عن أية طريق أخرى يختارها الشجعان، فهي مليئة بالتحديات التي لا يمكن أن يواجهها إلا القلة النادرة التي تمتلك الجرأة المطلوبة والشجاعة الكافية، وتمتلك المواهب القيادية الريادية الجسورة.