"كنتم خيرَ أُمة" (2)

 

 

عمَّار الغزالي

لم تكن الرِّسالة التي خطَّها عُمر بن الخطاب إلى وَالِيه على مِصْر عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- بعدما فشتْ للأخير فاشية من خَيْل وإبلٍ وغنمٍ وبقرٍ، وسؤال الفاروق استنكارًا عن أصل هذا المال، سِوَى تأطير لمنهجية "الاقتصاد النظيف"؛ ضَمَانَتُهَا الحفاظ على حُرمة المال العام، واستقرار المستقبل الاقتصادي الكافل للعدالة الاجتماعية؛ كغاية يجب أن تُدرك، ومنهجية أشرنا -في مقالنا السباق- إلى إلهامِهَا للقوى الاقتصادية الغربية، في وقتٍ تعمَّقت فيه معاناة الشعوب والدول والأمْصَار من "رسملة" الخطط و"لبرلة" خُطى التنفيذ، وتغوُّل ظاهرة "الفساد" التي تتمدَّد بجُذورها العميقة؛ فتتداخل فيها العوامل، وتختلف درجة شموليتها للقطاعات التي تمس عصب استدامة التنمية.

وعَلَى كثرة ما كُتب عن الفساد، ومسبِّباته، وآثاره ومظاهره، والدعوات الجادة لمعالجته واستئصال جذوره، ليس اليوم فقط بل ومنذ عقود مَضَت، إلا أنَّ ما يفرض إبقاء الأبواب مفتوحة على استمرارية طرحه هو التقارير والأرقام التي تصدُر من هُنا وهُناك فاضحةً حَجْمَه، وراصدةً التراجع الرهيب في مُؤشرات قياسه؛ بما يُنذر بأن يكون نوعًا من التمادي المُفْضِي للتهلُكة؛ مِصْدَاقًا لقوله تعالى: "وَإِخْوَانُهُم يَمُدُّوْنَهم فِيْ الغَيِّ ثُمَّ لَا يَقْصُرُوْن"، وردِّه صلى الله عليه وسلم على سؤال أم المؤمنين زينب بنت جحش: "أنهلُك وفينا الصالحون؟!"، فقال: "نعم، إذا كَثُر الخبث"، في وقتٍ غطَّى فيه الجهل والابتعاد عن الأخلاقيات الاقتصادية الإسلامية على قلوب السَّطحيين، فظنُّوا بأنَّ التقارير والدراسات والأطروحات المطالِبَة بتوجيه دفة اقتصادياتنا نحو مرافئ "الإصلاح بالإيمان" عمومًا و"الأخلاقيات" ضِمنًا وخصوصاً، بأنها ضربٌ من الرجعية والدعوة للعَوْدة إلى العصور المظلمة من وجهة نظرهم القاصرة، بعدما نسوا أو تناسوا -عَمدًا أو جَهلاً- ربَّانية الرسالة وشموليتها لكلِّ ما هو مُنظِّم للحياة في كل زمان ومكان: "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيْفُ الخَبِيْر".

وبنظرةٍ على الواقع، يَبِيْنُ حجم ما تسبَّب فيه هذا الفكر المتقوْلِب في قالب "التبعية"، من تعقُّد الفساد كظاهرة، أفضَت إلى تفاقم المآسي البشرية وشيوع الظلم وإهدار الكثير من الموارد العامة والخاصة وإساءة استخدامها؛ فالفساد كمُصطلح يُغطِّي مجموعة واسعة من الممارسات المشبوهة والمريبة، ويَشمل مساحة أوسع من الأعمال والتصرفات والأنماط السلوكية الشاذة؛ تنتظم كلِّها تحت عنوان عريض اسمه "الاستغلال السيئ للسلطات" -وعلى ذكر "السلطات"، يتوجَّب هنا تفنيد مظهر من مظاهر القصور الفكري يوجِّه أصابع الاتهام في معالجته لظاهرة الفاسد إلى القطاع العام وحده؛ رغم شيوع هذه الظاهرة في القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني كذلك- فتتوزَّع المناصب وفق مقاييس الولاء، وتتفشى الرشوة، واستغلال النفوذ، وهَدْر المال العام، والتربُّح من الوظيفة، وخيانة الأمانة في المعاملات المالية، والغش والتدليس، والغرر والجهالة، والغبن والبخس، والمماطلة في أداء الحقوق، والاحتكار، والمعاملات الوهمية. كما أنَّ مظهرًا من مظاهر الفساد كذلك: الإهمال والتقصير، والتعدِّي على لوازم العمل، وعدم الإتقان، وعدم الانضباط والالتزام بنظم العمل، وبخس العامل حقوقه؛ فتكون المحصِّلة النهائية إهمالا جسيما يُلحق ضررًا بأساسات البناء التنموي؛ فتنخفض المعدَّلات وتتباطأ المسيرة.

وإذا دلَّلنا بمثال على تشعُّبات الفساد اليوم وتغوُّله، يُمكننا القول بأنَّ العراقيل التي تُوْضَع مثلا في وَجْه الاستثمار للاستئثار بمجالاته، والحصول على مَكَاسب غير مشروعة من ورائه، ترفع في الأخير تكاليف الاستثمار وتخفِّض مستوياته وتشوِّه تركيبته، كما تقود لتراجع معدلات التوظيف فتزداد البطالة، وتنخفض الإنتاجية وتتراجع الدخول، وتتجه بالمقابل مُعدَّلات التضخم وتكاليف المعيشة إلى مُستويات أعلى، ومن ثمَّ تتفاقم معضلات الفقر ويزيد التباين بين الشرائح المجتمعية، وتنخفض عدالة التوزيع، التي بدورها تولِّد حنقاً بين المكونات الاجتماعية يُهدِّد السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي؛ بفعل تراجع الثقة بالمؤسسات الحكومية وقدرتها على تنفيذ الخطط بأمانة وإخلاص.. إنَّها تَبِعَات تدور في حلقات أفقيَّة، تُشبه إلى حدٍّ كبير آلة الفلك القديمة "أنتيكيثيرا" المكوَّنة من ثلاثين ترسًا؛ إذا تمَّ تحريك إحداها في الاتجاه غير الدقيق تحرَّكت التسعة والعشرون الأخرى إلى حيث لا شيء سوى "الخطأ"!!

وعلى الرَّغم من وُجود حلول عديدة لمكافحة هذا الداء المستشري، إلا أنها للأسف الشديد تعالج الأسباب البسيطة وليس الأسباب المتجذِّرة التي هي أساس وجود الظاهرة وانتشارها في المجتمعات.

إنَّ رقابة السُّلطة والرِّقابة الذاتية المستندة للوازع الديني وأخلاقيات الشرع الحنيف، كانتْ أسمى دلالات رسالة عُمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص؛ التي ربَّاهم عليها رسولنا الكريم؛ فلم تأتِ الرسالة في صُورة خطاب بروتوكولي بين الحاكم وواليه، بقدر ما كانت مِنْهاجَ عمل ودستور عدلٍ يسعى للتقويم، فأرسى دعائم الصلاح والإصلاح، وقَطَع على الفساد كلَّ سبيل، وأخذ نجم "العصر الذهبي" للدولة الإسلامية يتشكل في السماء؛ بعدما توارث اللاحقون ما كان عليهم السَّابقون، وفق مرجعيَّة دينية قيمية أخلاقية قوامها "وَلَا تَعْثَوا فِي الأرْضِ مُفْسِدِيْن"؛ فترجموا مفهوم "التنمية بالإيمان" واقعًا يُعاش بكل تفاصيله ومفرداته.

ويبقى السؤال: إنْ لم نكُن نحن، فمن سَيَحمل الرَّاية بعد هذا الجيل العظيم؟! ومن سيُعلِّم العالم القيم والأخلاقيات الحقيقية للاقتصاد الإنمائي؟! لقد فَقِهَ الصحابي الجليل رِبْعيِّ بن عامر هذه الوظيفة جيدًا؛ عندما بعثه رسولنا الكريم رسولاً إلى قائد الفرس، فقال له: "لقد ((ابتعثنا)) الله لنخرج العباد... من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة". فإذا لم نكن من الجيل الذي يفقه حقيقة هذه الوظيفة الكريمة الشريفة، مستفيدين من دراسة حياة رسولنا الكريم وتَرَاجِم سَلَفُنا الصالح أعظم استفادة، فلنحذر تحذيرَ ربنا: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ".. وللحديث بقية!!