لتحقيق الاستقرار.. اعطوا الشباب أرضًا وعلّموه ليزرعها

 

 

د. سيف المعمري

لقد تراجعت مكانة الزراعة كنشاط اقتصادي في عُمان، وأولئك الشباب الذين خرجوا من أُسر كثير منها يمتهن الزراعة انتقلوا إلى المدن؛ لأنّها قدمت لهم الوظائف ذات الدخول المُرتفعة، ووفرت لهم بديلا عن الاستمرار في متابعة الأراضي التي يمتلكونها سواء في سهل الباطنة أو في الأودية والواحات، على الرغم من أنّهم كانوا تربُّوا على الزراعة، كانوا يشاهدون الارتباط الكبير بين أجدادهم وآبائهم بالأرض، وكانوا يبدؤون صباحاتهم على أصوات المكائن "اللندنية" التي ينطلق صوتها معلنا بداية يوم جديد داخل الأرض أو أنها تُعلن انتهاء وقت القيلولة عند الرابعة حيث يبدأ الدوام المسائي في أجواء خضراء تبعث صحة نفسية، وتحرك الأجسام التي ما كانت تعرف معنى الجلوس أمام التلفزيون الذين كان المتنفس الإعلامي الوحيد في ذلك الوقت، كان هؤلاء الشباب يتربون في أسر منتجة لم يعرف كثير منها عبودية الوظائف، أو سلطة الراتب، فالمزرعة بمحصولاتها المختلفة طوال العام، وبحيواناتها المتنوعة كانت توفر إيرادًا يكفي الأسرة للعيش، وكان كثير مما تأكله من لحوم بيضاء وحمراء، وبيض، وسمن، وروب، وحليب، وخضروات تنتجه بنفسها، ولذا لم يكن أحد يتكلم عن البطالة، أو يأتي على ذكرها، ولذا كانت الحكومة بعيدة عن الضغط ومطالب التوظيف، ولم يكلفها الأمر إنشاء أجهزة بمبالغ كبيرة لإحصاء العاطلين عن عمل، وكان الناس يكتفون منها بما تجود به البطاقة الزراعية التي يحملونها، وبعض العناية البيطرية التي يحصلون عليها من مكاتب الإرشاد الزراعي التي كانت في ذلك الوقت أكثر حضورًا في المجتمع من سجل القوى العاملة أو من وزارة البلديات، أو من وزارة التجارة والصناعة، فما الذي جرى حتى تغيرت مفاهيمنا عن الزراعة، وقيمتها لنا ونحن أمة كانت تصدر وأصبحت تستورد، وكان معظم الناس يعملون في الزراعة وتركوا مزارعهم رهينة العمالة الوافدة، والملوحة والتصحر والأمراض والآفات، لماذا حدثت هذه التحولات في صمت منا دون أن يلتفت أحد إلى أن الزراعة هي نشاط اقتصادي مهم يجب أن نهيئ له الإمكانات والموارد البشرية حتى ينمو ويتطور بطرق علمية، اختفت حصة الزراعة من المنهج المدرسي، وكذلك المساحات الخضراء من المدارس برغم أنّ الطلبة يتعلمون أن بلادهم زراعية، وتعرض لهم صور عن الفلاح العماني الذي لا يجدونه إلا قليلا؟ هل هناك آمال في التوجه إلى الأراضي وزراعتها، وربط الشباب بالأرض بدلا من ربطهم بالمكاتب والوظائف المكتبية التي يعلم الجميع شعباً وحكومة أنّ العائد منها لا شيء، وأنّ الناس يبصمون صباحا ويمضون لحال سبيلهم حتى إذا كان وقت الانصراف عادوا وبصموا مرة أخرى على حاضر لا يعرف أحد إلى أين يقود، أليس الأولى أن نساعد الشباب في أن يتركوا بصمة ذات قيمة على أرض بلدهم؟

إنّ علامات الاستفهام كثيرة حول واقع الزراعة في عمان، وما يجري من نقاش حول التنويع الاقتصادي لا تذكر فيه الزراعة إلا على استحياء، ومشكلة الزراعة كغيرها من القطاعات ألا أحد يريد أن يتكلم فيها بصراحة، فالأرض لم تعد ملكا لأصحابها إنّما هي محتلة من عمالة جاءت إليها لتعمل فقط، ولكنها مع مرور الوقت وضعت يدها على كل شيء، والنّاس والحكومة يتفرجون على ضياع الأرض، ولا أحد يعنيه من أمرها شيئًا طالما أنّ الجميع يعتقد أنه مستفيد بدءا من صاحب الأرض إلى صاحب شركة الاستيراد الذي يجلب لنا من الخارج ما نحن قادرون على دفع ثمنه، فلم يعد الناس آمنين وظيفيًا حيث يزداد عدد الشباب العاطلين، ولا آمنين غذائيًا حيث يستورد كل شيء من الخارج، لقد بث برنامج "الاقتصاد والناس" يوم 28 سبتمبر 2013 برنامجًا عن أحوال الزراعة في سلطنة عمان والمشكلات الزراعية التي تعترضها، وكشفت عن واقع يستدعي الوقوف وإيجاد الحلول، فلا يمكن أن نتفرج على الإشكاليات دون أن نجتهد لوضع حلول لها، وإلا فقد أثبتنا للجيل الذي ينتظر حلولا أننا عاجزون، وأنّ المستقبل الباهر الذي نبشر به ليس إلا حلما صعب المنال، إنّ هذا البرنامج كشف أنّ (52%) من المساحات المزروعة في عمان مخصصة للنخيل الذي يستهلك الهكتار منه عشرة آلاف لتر من المياه بينما العائد مئات الريالات، وعرض البرنامج لإشكاليات حادة تواجه الزراعة وهي ملوحة التربة ونقص المياه وضعف التسويق، وبالتالي هذه الإشكاليات التي يتم تداولها والتأكيد عليها دون حلول تنفر أي مغامرين من الشباب لامتهان الزراعة، وتجعل آمالهم معلقة بالوظائف المكتبية، وتجعل الحكومة تحت ضغط لتوفير وظائف غير قادرة عليها، مما يجعلها تلجأ إلى مخاطبة القطاع الخاص على استحياء لتوظيف الآلاف المتزايدة من الشباب، لكن الحكومة لم تفكر في ربط الشباب بالأرض وهو طريق آخر يمكن أن يوجد استقرارا للجميع، فالأراضي الزراعية وغيرها في الأماكن التي يمكن أن تُستصلح تذهب إلى من لا يملكون وليس إلى من يملكون، تذهب بمساحات كبيرة جداً، فكيف يمكن أن نحقق الاستقرار لشاب لا يملك وظيفة ولا أرضاً؟ وكيف يمكن أن نحقق الأمن الغذائي لبلد تواجه الزراعة فيه كل هذه الإشكاليات؟

لا يعقل أن نتحدث عن آلاف الباحثين عن عمل في بلد يملك مساحات كبيرة من الأراضي التي يمكن أن تُستصلح وتزرع في آمال جيل يقف يلتفت يمينا ويساراً يبحث عمن يساعده للعبور نحو الاستقرار، لا من يزرع بداخله القلق ويجعله يجد منافسة شرسة أينما ذهب، هل يعقل أن نتكلم عن "26533" باحثا عن عمل حتى نهاية شهر فبراير 2017م، منهم "12525" من حملة البكالوريوس، و"10133" من حملة دبلوم التعليم العام، ليُمنح هؤلاء أراضي زراعية في أي مكان قابل الاستصلاح مجاناً، ولنربطهم ببلدهم ونساعدهم على النجاح، فلا يوجد أحد نجح في هذا البلد من الكبار والصغار إلا وساعدته الحكومة بقدر قدرته ومكانته على الحصول على الدعم، لا يعقل أن نربي فئة من أهم الفئات السكانية داخل البلد بدون "ملكية"، انعدام الملكية يعني انعدام الأمل خاصة إذا ارتبطت بوظيفة يحصل عليها الإنسان، أو أرض يقوم على زراعتها أو مشروعا يعمل على إدارته، وما يقومون به في هذه الأراضي سوف يعود على البلد بكثير من الفوائد، أولها الاستقرار، وثانيا تعزيز الانتماء لدى الفئة الفاعلة، وثالثا تقليل الضغط على القطاعين من مطالبات التوظيف، وتقليل أي نزعات تقود إلى البطالة من مخدرات وسرقة وأمراض نفسية ناتجة عن التفكير في المصير والآمال.

وحين نعطي لكل شاب أرضاً فذلك يعبر عن أقصى اهتمام يمكن أن يحصل عليه ويعزز لديهم المواطنة، أمّا حين نمنحه شهادة في تخصصات ندرك من البداية ألا عمل لها فنحن نرميه إلى مصير لا يجب أن نلومه بعد ذلك على أي شيء قد يقوم به، ولا أن نحاسبه على مواطنة أو انتماء أو عطاء أو التزام، وبالتالي حتى أيضًا يتقبل الشباب أن يعملوا بالزراعة لابد من إعادة النظر في مكانة الزراعة في التخصصات المعروضة للشباب، فرغم الحاجة إلى أفق مختلف عن التخصصات الهندسية والتجارية وتقنية المعلومات التي فرّ منها ما يزيد على عشرة آلاف وجدوا أنفسهم لو استمروا سوف يضاعفون أعداد العاطلين، لا نجد تغييرا كبير في خريطة التخصصات المعروضة للشباب والتي أعلن عنها مركز القبول الموحد للعام الأكاديمي القادم (2017/2018) حيث عدد البرامج الدراسية المخصصة للزراعة والثروة الحيوانية، وكيفية إدارتها محدود جدا؛ فهناك برنامج الأغذية والزراعة منحة من دول مجلس التعاون الخليجي، وبرامج كلية العلوم الزراعية والبحرية بجامعة السلطان قابوس وبرنامج التدريب الزراعي الذي يُقدمه مركز التدريب المهني بولاية صحم، وفيما عدا ذلك تسيطر برامج الهندسة والتجارة والإدارة وتقنية المعلومات على خريطة الدراسات العليا، في مؤشر يعكس تدني أهمية الزراعة كنشاط إنتاجي مستقبلي يمكن أن نوجه له للشباب، هل يمكن أن نعيد النظر في هذا الاتجاه الذي يُراكِم لنا أعداد البطالة سنوياً؟ أليس من الحكمة أن نوجه الشباب إلى الأرض التي كانت على مرّ التاريخ مصدر رخاء عمان، ومحركاً لأعظم الاكتشافات التي قدّمها العمانيون للإنسانية وهو نظام الأفلاج، لماذا نُصر على أن تكون الأراضي بورا، والعقول كذلك، لماذا لا نعمل على استصلاح العقول لكي تَستصلِح لنا الحقول؟