المواطنة المنتجة.. استثمار الفرص أو إهدارها!

 

د. سيف المعمري

لا شيء يقف في طريق أي بلد يريد أن يتقدم إلا إن أراد أن يقف ضد نفسه، وذلك من خلال طريقين إمّا أنّه يهدر الفرص المتاحة للاستثمار في البناء أو أنّه غير قادر على صناعة الفرص التي تتيح له التقدم لمجابهة الإشكاليات التي تواجهه، وهذا الاستثمار أو صناعة الفرص مرتبط بشكل كبير ببناء نموذج المواطنة وفق أسس سليمة تقوم على الإنتاج، والعمل، وإرساء القانون، والمحاسبة، وقبل كل ذلك زرع شعور جماعي بأهميّة التقدم والمنافع التي يمكن أن تعود على الجميع من ذلك، وبالتالي يعمل الجميع وكأنّ كل واحد منهم سن في آلة العمل الوطنية، هذا السن لا أحد يتركه يتوقف ولو للحظة لأنّ توقفه يعني أنّ الآلة الوطنية سوف تتوقف مما يقود إلى نتائج سلبية على الجميع، والمراد هنا نوعيّة العمل، وكيفية القيام به بحيث يحقق ما لم تحققه الأساليب القديمة في العمل، ولذا يضع الجميع معيارا هو أنّ قيمة المواطن بالعمل الذي يقوم به ونوعيّته وليس بخلفيّته الاجتماعيّة أو الوظيفيّة أو بالقرب أو البعد من مراكز اتخاذ القرار، فلا يمكن أن تتحول مراكز اتخاذ القرار إلى مراكز تئد المواطنة المنتجة لتحل محلها مواطنة مشوشة تؤدي إلى تقويض الفرص أو تعيق صناعتها.
أمران أود التوقف عندهما في هذا الموضوع الذي يتطلب منا التفكير فيه تفكيرًا مختلفًا بعيدًا عن الحساسية المفرطة تجاه لفظة المواطنة التي تحتاج المجتمعات دائما إلى مراجعة قيمها المختلفة للتأكد من أنّها تعمل بشكل جيّد وترسخ استقرارًا وتنمية مستدامة، الأمر الأول كنت طرفا فيه أي لم ينقل لي أحد ما جرى، وتفاجأت بنوع من اللامبالاة بدأت تسيطر على بعض أماكن اتخاذ القرار، حيث تتنصل الدوائر الصغرى من المسؤولية لتحيلها إلى الدوائر العليا، وحيث الدوائر العليا تتنصل منها لتحيلها إلى بعضها بعضا، كل طرف يقول لست مسؤولاً رغم أنّ الجميع يلتقون في مظلة منوط بها مسؤوليات محددة، وحيث الأمر رغم أهميّته وتأثير ما جرى فيه على جوانب أخرى في البلد، إلا أنّ حالة اللامبالاة قادت إلى عدم الاهتمام بالموضوع، وكم موضوعا شبيها اليوم في ظل كل هذه التحديات يواجه بتجاهل أو عدم اكتراث ولا مبالاة من بعض دوائر اتخاذ القرار، ألا يمثل ذلك نقطة مهمة جدا في إعاقة ترسيخ المواطنة المنتجة التي تجعل كل نقطة مهما كانت مهمة لأنّ لها أثر ما على تطور البلد، ونحن نعلم أنّ نماذج المواطنة التي نجحت انطلقت من الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة على قدم المساواة مع التفاصيل الكبيرة، فالنهوض معا لمشروع واعد هو هدف يستحق النظر في كل شيء، أمّا العزلة عن كل شيء والغياب عن مختلف الدوائر المتسعة للمسؤولية فذلك غياب له دلالاته وآثاره التي لا يمكن بعد ذلك معالجتها.
أمّا الأمر الثاني فكان إحصائية نشرتها جريدة محلية عن الباحثين عن عمل بتاريخ 26 مارس 2017م، حيث أشارت هذه الإحصائية إلى أن عدد الباحثين عن عمل وصل حتى نهاية فبراير من نفس السنة إلى (32836) غالبيتهم في محافظة شمال الباطنة المحافظة المكتظة بالسكان، وتركّزت أيضا الغالبية في الفئة العمرية من (18-29)، 38% منهم من حملة البكالوريوس، والسؤال لماذا تصبح مثل هذه القضية مجرد مصدر لإحصاءات مستمرة عن ارتفاع العدد فقط بدون التفكير فيها بشكل مختلف خاصة في بلد يقدم فرص توظيف نوعيّة في مجالات متعددة أبرزها قطاع التعليم العالي الذي تعمل اليوم فيه أربع شركات كبرى لاستجلاب مدرسين من عدد من الدول التي ليس لها مكانة بارزة في مجال التعليم العالي، ولم تنشر حتى اليوم أيّة إحصاءات عن مؤهلاتهم أو خبراتهم حتى يمكن معرفة الفجوات التي نحتاج لسدها عند الكوادر الوطنية من أجل أن تحل محلهم، لأنّ أماكنهم هي فرص غير مستثمرة للحد من مؤشر تزايد عدد الباحثين عن عمل، أمّا من ناحية أخرى فالسؤال الأزلي الذي يطرح دائما بدون أية رؤية لإجابة واضحة لماذا يتزايد عدد الباحثين عن عمل من حملة المؤهلات سواء البكالوريوس الذين وصل عددهم إلى (12525) وحملة الماجستير والدكتوراه الذين بلغ عددهم (73)؟ والإجابة المحتملة إمّا أنّهم لا يحملون مؤهلات ذات جودة وبالتالي لا يرغب أصحاب العمل أو المؤسسات الحكومية في تشغيلهم؛ وهذا يعبر عن خلل في صناعة الفرص يتفاقم بدون رغبة في الإصلاح لأسباب لا يعرفها إلا القائمون على مؤسساته؟ أو أنّهم يحملون المؤهلات المطلوبة ولكن لا يرغب متخذو القرار في إحلالهم محل آخرين موجودين حاليًا وهذا يعبر عن هدر في الفرص المتاحة؟
في ما يتعلق بالأمر الأول المرتبط بحالة اللامبالاة التي تؤثر في صناعة نموذج للمواطنة يساعد على خلق الفرص واستثمارها، أود أن أشير إلى دور النخبة البيروقراطية الكورية الجنوبية في تحويل بلدها من أفقر بلد في العالم يعاني من العديد من الإشكاليات في الخمسينيات إلى بلد متقدم ينافس اليوم على مختلف المؤشرات، حيث يشير تقرير نشره مركز الجزيرة للدراسات بعنوان "تجربة كوريا الجنوبية: عوامل النجاح وتحديات المستقبل"، أعده عبد الرحمن المنصوري، ونشر يوم الإثنين 24 يونيو 2013م، حيث قال فيه: " يعود نجاح التجربة التنموية لكوريا، ...إلى الدور الذي لعبه الموظفون الحكوميون في مجلس التخطيط الاقتصادي ومكتب التنسيق والتخطيط لوزارتي المالية والتجارة؛ حيث أنشئت وحدات التخطيط والتسيير في كل وزارة. وتشكلت هذه النخبة الإدارية من ذوي التعليم العالي حيث كانوا يحملون شهادات عليا من جامعات محلية أو أخرى خارجية رائدة على المستوى العالمي، وكانت لديهم رؤية اقتصادية واضحة، وكانوا يسهرون على التخطيط وتحديد الأهداف والخطوط العريضة وتطبيق الاستراتجيات لحل مشكلات التنمية والتعليم والقضاء على الفقر، وبناء اقتصاد حديث وبنية صناعية وتكنولوجية متطورة.. وتحويل البلد إلى قوة اقتصادية وتجارية وعالمية.
إذن من متطلبات تحقيق المواطنة المنتجة الانطلاق من كوارد وطنية محلية وطنية في البناء، وجعل المعرفة الأساس في شغل المراكز التي تتولى التخطيط من أجل تحويل الإشكاليات إلى فرص للبناء والتطوير بدلا من التفرّج عليها ومواجهتها بلامبالاة، أو بدون الالتفات إلى هدر طاقات العنصر البشري الذي تقوم عليه ومهارات أية تنمية أو حركة اقتصادية، وردم الهوة بين مراكز اتخاذ القرار ودوائر تنفيذه أحد المحركات لترسيخ المواطنة المنتجة، علاوة على الاستثمار النوعي والهادف والخاضع للرقابة للعنصر البشري، وكذلك تحرير الإنفاق على البحث العلمي لأنه الأساس في الانطلاقة لأي نهضة، ولا يمكن أن تقلص مخصصات البحث العلمي وكذلك فرص بناء الباحثين في ظل فترة تتطلب حلولا نوعية.
لا شك أنّ نموذج المواطنة لدينا يتطلب مزيدًا من النقاشات، لأنّه ليس نموذجًا رعوياً كما يعتقد البعض، كما أنّه ليس نموذجا منتجاً كما يأمل البعض، وإعداد مواطنين فاعلين يتطلب بناء بيئة فاعلة زاخرة بالفرص التي يكون الاستفادة منها لذوي المواهب والمؤهلات والقدرات وليس لمن يمتلكون معايير أخرى غير معايير المواطنة المنتجة، كما أنّ إحداث التحول يتطلب تحولا آخر في الأماكن البيروقراطية التي أولتها دول متقدمة مثل كوريا الجنوبية عنايتها لأنها الأماكن التي تكون مثل خلايا النحل تنتج الشهد الذي يقتات عليه الجميع، يعرف كل واحد فيها دوره ويقوم به على أكمل وجه، يسهر عليه لأنّه يدرك أنّ الآمال معقودة على سهره وإخلاص وخبرته، ولكن ماذا لو لم تعمل مثل هذه الأماكن كما تحمل خلايا النحل؟ ماذا لو كان كل واحد لا يعرف دوره أو إذا عرف به لا يقوم به؟ أو ماذا لو لم يكن لديه وقت ليقوم به لأن لديه عشرات الأدوار في عشرات الأماكن؟ فكيف لنا أن نوجد مواطنة منتجة وشعبا منتجا وبلدا زاخرا بالفرص.