"كُنتم خَيرَ أمة"..!

عمَّار الغزالي

قد يَكُون اسم بوفيس فانسون غير مَألوف بالنسبة للكثيرين، رَغْم ما أحْدَثه هذا الرجل من جَدَل واسع في الأوساط الاقتصادية الأوروبية منذ ما يُقارب العشر سنوات -خلال أزمة 2008 الشهيرة- بعدما عَنْوَن افتتاحية أحد أعداد مجلة "تشالينجز" الفرنسية بتساؤل "البابا أو القرآن؟"؛ فنَّد فيه ملامح الشيخوخة التي حَفَرَتها الأزمة على وَجْه النظام الرأسمالي. وقادَته خُطى الفكر إلى الاعتراف بالحاجة "في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل؛ لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبَّقوها، ما حلَّ بنا ما حلَّ من كوارث وأزمات"!!

صَحِيح أنَّنا لم نَكُن يومًا بحاجة لكلمات فانسون -أو غيره كرولان لاسكين رئيس تحرير "د.فينانس" الذي حذا حذوه- لتصوغ لنا حُجَّة على صدقية المنهج وموثوقية المبادئ، إلا أنَّ تنامي هذه الدعوات في أرجاء اقتصاديات العالم الأول، يُحتِّم علينا وقفة جادَّة مع النفس لنَفْض الغبار على تاريخنا الاقتصادي الإنمائي الذي حَوَته كُتب ومُجلدَّات توارتْ -بفعل التبعيَّة- خلف كتابات رأسمالية واشتراكية لم تجلب سوى النكبات؛ فالحسابات الخاصَّة التي وَضَعتها شريعتنا الغرَّاء للتنمية، جعلتها في حُكم الواجب؛ كما يُدلل على ذلك قوله تعالى: "هُوَ أَنْشَأكُم مِنَ الأرْضِ واسْتَعْمَركُم فِيْهَا"؛ تحقيقًا لاشتراطات الخلافة "إنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيْفَة"؛ وفق منظومة قيميَّة أساسها المساواة والعدل، وإعادة التوازن بين الملكيات.. وهو باختصار ما يبحث عنه دعاة التنمية المستدامة اليوم، بعيدًا عن الكلمات الفضفاضة في خطط وإستراتيجيات ينكشف وهنُها مع أول عارض.

وإنْ كانت بضدِّها تتمايز الأشياء، فإن تعريجاً سريعًا على مذكرات ألان غرينسبان رئيس مكتب الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق؛ يُبرز الفجوة الحقيقية بين الواقع، وما يجب أن تكون عليه اقتصاديات عالم اليوم؛ فالرجل الذي ظلَّ صامتا طوال 60 عامًا قضاها في العمل الاقتصادي؛ كَالَ جُملة اتهامات نالت من "الشرعية الزائفة" للسياسات الرأسمالية والاشتراكية القائمة، والتي كان أسوأ ما ميَّزها تعميق معاناة الطبقة الكادحة، وانتُهاج سياسات اقتصادية أحدثت فجوات اجتماعية، باتت خيوط اللعبة على أثرها في أيدي الكبار، وتركَّزت الثروات في فئات معينة؛ حتى إن "بي.بي.سي" في تقرير مطوَّل لها في العام 2015، قالت إنَّ "85 ثريًّا فقط يملكون نصف ثروة فقراء العالم"!!

وبعدما مَلأت النُّدوب وجه الاقتصاد العالمي، بدت المفارقة، وعَلَتْ الأصوات بالتأسي بشريعةٍ يمتازُ مَفْهُوم العُمران فيها (التنمية) بالشمولية، في وقتٍ خلع فيه منتموها عن أنفسهم عباءة منهجيتها، واعتمدوا على "الخطط المعلَّبة" المصدَّرة لهم من بيئات تختلف عنهم في الخصوصية، ولا تُلقي بالاً لأية أخلاقيات سماوية إنسانية قائمة على العدل وإنصاف الفقير من الغني وإلغاء حكم القوي على الضعيف.

فشمولية لفظ "التنمية" في الإسلام، بتركيزه على بناء الإنسان والقواعد المحاربة للسلوكيات المعيقة للعملية العُمرانية، هو الذي استرعى انتباه اقتصاديي اليوم كـ"أيديولوجية إنمائية غائبة"، رأوا في أخلاقياتها "شيفرة" الاستدامة؛ وفق أضلاع ثلاث على شكل هرم.. قاعدته "الأشكال المتعدِّدة للملكية" كحق مشمول بالرعاية -انتهكته سياسات النُّظم اللاحقة كما سبق وأوضحنا- فكانت الملكية الخاصة استنادًا لقوله تعالى: "نَحْنُ قسَّمْنَا بَيْنَهم مَعِيْشَتَهُم فِيْ الحَيَاةِ الدُّنيا"، والملكية العامة وفق قوله صلى الله عليه وسلَّم: "الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار"، وملكية الدولة من خلال قيادتها للحياة الاقتصادية فتقِيْم العدل الاجتماعي في توزيع الثروات. أمَّا ضلع الهرم الثاني؛ فهو: "الحرية الاقتصادية المنضبطة" على أساس المبدأ الشرعي القائل: "لا حرية لإنسان فيما نصَّت عليه الشريعة"، على عكس مبدأ "دعه يعمل..دعه يمر" الذي أسَّس عليه آدم سميث نظريته الرأسمالية. والضلع الأخير: "العدالة الاجتماعية" بجناحيه (التكافل العام) كما في قوله تعالى: "وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّه وَالمِسْكِيْن وابنَ السَّبِيْل"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد..."، والثاني: (التوازن العام) وهو مسؤولية الدولة في تحقيق حدِّ الكفاية "المستوى اللائق للمعيشة" لكافة أفراد المجتمع.

إنَّها موجِّهات أدْرَكوا نجاعتها في ضبط بوصلة سفينة التنمية حتى ترسو على شواطئ الاستدامة؛ فنادوا بالعودة إليها.. لقد قرأوا تاريخنا الذي لا نعلمه؛ تاريخا حافلا بالتطوُّر والتقدُّم المذهل، لاسيما العصر الذهبي، حينما كُنَّا عظماء؛ فشيَّدنا اقتصاديات ودولاً بمعنى الكلمة، حَمَل فيها المسلمون رسالة للعالم بأن دينهم المتجدِّد في اتجاه التقدُّم؛ نظامٌ كامل يُعالج شؤون الاقتصاد عبر منظومة قيميَّة تضع الحلول المناسبة للمشكلات؛ وأضافوا للعلوم الاقتصادية حينها؛ إذ كانوا أول من وضع الصفر، ونشروا الأرقام، وبرعوا في مختلف صور الحساب والهندسة، وابتكروا علوم الجبر وحساب المثلثات... لقد وضعوا نظامًا اقتصاديًّا شاملاً عنوانه "التنمية بالإيمان".

واليوم.. ونحن نستحضر قوله تعالى: "ظَهَر الفسادُ فِي البَرِّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النَّاس لِيُذِيْقَهَم بَعْضَ الذِي عَمِلُوا"، يُلهمنا "فقه الواقع" أولوية عمل مراجعات شاملة للذات والخطط والإستراتيجيات، كجزء مهم في خطة "إدارة المخاطر والأزمات". صحيح أنَّ الحديث عن ذلك متأخر جدًّا، ولكن "أن نصل متأخرين خير من أن لا نصل أبدًا"؛ فالوضع الحالي يستدعي على وجه السرعة حديثاً واسعًا عن أهمية تبنِّي نماذج حوكمة اقتصادية شرعية ترتبط بمقاصد الشريعة الإسلامية وأهداف المجتمع الكلية، وقراءة تاريخنا لاستلهام العِبَر من تجاربه، وأن تتضافر الجهود لإبراز أهمية العودة لأخلاقياتنا الاقتصادية، وأن تضطلع المؤسسات المسؤولة عن صياغة الخطط المستقبلية بمسؤوليتها في مراجعة بعض النقاط المفصلية، وتطويرها لتتفق والمعايير الشرعية. ولا أدْرِي حقيقة السببَ وراء تأخُّر تعميم تجربة المصارف الإسلامية -التي بدأ حجم منجزاتها يتنامى رغم حداثة التجربة- لتشمَل أسسَ ومُرتكزات العملية الاقتصادية ككل؛ بما يُمثل "حائط صد" أمام تداعيات لن تُسعفنا خططنا الحالية لتجاوز سلبياتها بسهولة.

ويبقى القول في الأخير.. إننا وإنْ كُنَّا قد سلَّمنا عُقولنا وتجاربنا السابقة لسياسات وضعية، واستنسخنا خططا عالمية، لم تُلحقنا بركب الاستدامة؛ فلنحاول سريعًا تدارك الخطأ ولنعُد إلى مرجعيتنا؛ فكما ارتضيناها عقيدة فلتكن منهاجَ حياة.

وفي هذه السلسلة "كنتم خيرَ أمة" سأحاولُ أنْ أجُوْل حول كُنوز من شريعتنا الغرَّاء المتعلقة بالاقتصاد الاسلامي بمعاييرها الأخلاقية ومقاصدها السامية الكفيلة بسعادة الإنسان والإنسانية.

ammaralghazali@hotmail.com