ماذا بعد "داعش" والحركات "الجهادية"؟!

د.يحيى أبوزكريا
 لا يختلف عاقلان في العالم العربي والإسلامي وفي القارات الخمس في أنّ تنظيم داعش هو أفظع وأخطر تنظيم عرفته الساحة العربية والإسلامية في بدايات الألفية الثالثة.. والسؤال الأكثر حضوراً في الدوائر الأمنية ومراكز البحث والدراسات ومراكز الاستشراف ومراكز القرار العَربي والعَالمي هوماذا بعد داعش؟.
صحيحٌ أنَّ المعارك الضارية ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا قد يؤدي إلى فقدانها دولتها المزعومة وخلافتها الوهمية، لكن قد يُؤدي تنامى مُعدلات الإحباط داخل صفوف داعش إلى بروز مجموعات تتبنى نمطاً تكفيرياً أكثر تشدداً وانعزالاً ودموية ضد من ألغوا خلافة الجماجم والرقاب المقطوعة. الذين يًحاربون داعش أعدوا العدة عسكرياً لكنِّهم لم يؤسسوا لمشروع ثقافي تنويري في بيئات داعش وفي البيئات المحرومة التي تستقبل أفكار داعش برحابة صدر ورحابة سيف.. وبناءً عليه فإنَّ تراجع تجربة داعش سيُفضي إلى انشطار الداعشية إلى مجموعات أصلب في أفكارها ورؤاها، كما خرجت من رحم القاعدة قواعد لا تُؤمن إلا بالدم المراق والتفخيخ المدمر، وسيصعب على المجموعات الداعشية الاندماج مجدداً في المجتمعات العربية بل سوف تكر وتفر وتنعزل استعدادا لفرصة أمنية أخرى.
وهنا نذكّر بكلام سيد قطب في كتابه "معالم في الطريق": "لا بد إذن في منهج الحركة الإسلامية أن نتجرَّد- في فترة الحصانة والتكوين- من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها.. لا بد وأن نرجع إلى النبع الخالص.. لا بد إذن من القطيعة مع الجاهلية والاستعلاء عليها ثم تغييرها". وهو نفس المعنى تدقيقًا ورد في كتيب "دورة في فن التجنيد"، يشير أبوعمرو القاعدي إلى أنَّ عزل عناصر التنظيم تمر بمرحلتين، تبدأ بالعزلة الوجدانية من خلال توفير المواد الإعلامية والتربوية الخاصة بالتنظيم عن طريق شبكة الإنترنت لتمنح عناصر التنظيم حصانة فكرية من التأثيرات المُجتمعية المحيطة بهم، وتكتمل هذه العزلة الوجدانية بالعزلة المادية والخروج من المجتمعات، فالهدف الأساسي هنا "عزل الفرد عن البيئة السيئة التي يعيش فيها، ووضعه في بيئة جيدة تهدف إلى تحسين إيمانه".
وفي هذا السياق يشار إلى النظام الرسمي العربي لم يُعِد لا نفسياً ولا فكرياً ولا ثقافياً ولا تنويرياً أي خطة لإعادة استقطاب العناصر التي فجَّرت الأمن القومي العربي من أجل الجنة وحور العين، لقد كانت داعش وأخواتها حصان طروادة للمشروع الإمبريالي العالمي الذي رسم معالمه برنارد لويس الداعي إلى تقسيم العالم العربي إلى دويلات عبر خلق بؤر توتير، وهذا الغرب لن يسمح بسحب صواعق التفجير عن العالم العربي، وبناءً عليه قد يكون الجنين الذي يخلف داعش أشد وأخطر، إضافة إلى ذلك فإنَّ التطرف الديني والفقهي والمذهبي والتعصب سيظل قائمًا، لأنَّ النصوص الدينية التي يستند إليها تنظيم داعش وكل الجماعات المسلحة باسم الإسلام موجودة منذ ألف وأربعمائة عام، وتسرطنت أكثر مع مرور السنين، ثم هل ستلجأ داعش إلى تغيير جغرافيتها وتنتقل من المشرق العربي إلى المغرب العربي الذي يتعرض لقصفٍ داعشي مهول.
في ظرف وجيز وقياسي أصبح العنف عنواناً للمرحلة العربية والإسلامية الراهنة وحركات الإسلام السياسي فرَّخت حركات مُسلحة وجهادية تؤمن بالحتمية الثورية والجهادية لإقامة دولة الإسلام ودولة الخلافة على منهج السلف الصالح. وعلى طريق كارل ماركس في كتابه رأس المال الذي يعتبر أنَّ الثورة حتمية، أنتجت المدرسة اليسارية مفهوم الحتمية الثورية، وكان الكاتب مصطفى محمود ثاقب النظرة عندما قال في كتابه "الإسلام السياسي والمعركة القادمة": "كان خطأ الحركات الإسلامية في الماضى أنها حاولت ضرب الحاكم وقلب نظامه فدخلوا السجون بدلاً من أن يدخلوا البرلمان وقد أخطأوا بذلك مرتين.. أخطأوا في حق الحاكم وأخطأوا في حق الإسلام فالإسلام سلاحه الإقناع وليس الإرهاب، أما الذي يقع في خانة الإرهاب فهو شيء آخر غير الإسلام".
وقد ملأت الحركات المُسلحة الدنيا وشغلت الناس في العالم العربي والإسلامي ولها إنعكاسات خطيرة على مجمل القارات، ففي أفريقيا انتشرت القاعدة وداعش وبوكو حرام، وفي المغرب العربي الجيش الإسلامي للإنقاذ والجماعة الإسلامية المسلحة والحركة السلفية الجهادية وجماعة الدعوة والقتال والقاعدة وتنظيم الدولة وفداء الإسلام وجند الخلافة وحزب التحرير، وفي المشرق العربي جبهة النصرة وداعش أيضًا وألوية لا حصر لها من الأسماء لواء الرحمان والفاروق والخلافة وغيرها مما لا يحصى! ناهيك عن جماعات الجهاد الأفغاني سابقاً ولاحقاً وتنظيم طالبان. كما بزرت حركة أكناف المقدس وحركات تحارب الدول كافة في المشرق العربي وفي مغربه وفي الداخل الكوني والعالمي.
ومما قاله عبد الرحمن عزام في كتابه "آيات الرحمان في جهاد الأفغان" إن الجهاد فريضة مقدسة وتحديدا في آسيا في بلاد الأفغان والشيشان وليس في فلسطين للأسف الشديد، وعلى خط هذا الجهاد المسلح دخلت الاستخبارات الأمريكية والغربية والموساد والمخابرات التركية والعربية الإقليمية، وباتت البندقية الإسلامية في خدمة الأجندات وليس في خدمة الأمن القومي العربي والقضية الفلسطينية تحديدًا، وإذا كانت دوائر الاستخبارات ومراكز التحليل الغربي وحتى العربي- إذا وجدت طبعًا- قد أشبعت حركات الجهاد المسلح بحثاً وتوسعت في أدائها في الراهن وخطورتها وانعكاسات عنفها على الدول والمجتمعات، فإنّ هناك نقصًا هائلاً في مجال الدراسات الاستشرافية والمستقبلية وما يحمله القادم من الأيام عن هذه الحركات.. فهل ستؤول إلى الأفول؟ وهل سيعود العالم العربي إلى العقلانية والحوار؟ وكيف ستُعالج السلطات العربية بؤرة العنف المسلح بالحوار أم بالنار؟ وهل ستحقق هذه الحركات مشاريعها التهديمية أم أنّها أداة بيد الإرادات الدولية التي تهدف إلى تمزيق العالم العربي والإسلامي على طريقة برنارد لويس الذي قال: "يجب إعادة وزيادة تفتيت العالم الإسلامي- من باكستان إلى المغرب- وإنشاء أكثر من ثلاثين كيانًا سياسيًا جديدًا- علاوة على الدول الستة والخمسين التي تتوزع عليها خارطة عالم الإسلام- أي تحويل العالم الإسلامي إلى "فسيفساء ورقية" تقوم فيها 88 دولة، بدلاً من 56.. بما يعنيه هذا التقسيم المقترح من شقاقات وصراعات وحروب وآلام، تزيد هذه الكيانات ضعفًا فوق ضعفها، وهزالاً فوق هزالها، الأمر الذي يجعل بأس هذه الكيانات بينها شديدًا، ومن ثم تكون رحيمة على أعدائها الحقيقيين!.
لقد كان برنارد لويس صريحًا عندما قال: "إنَّ هذا التفتيت للعالم الإسلامي هوالضمان الحقيقي لأمن إسرائيل"! التي ستكون الأقوى وسط هذه "الفسيفساء".