فلنستيقظ!

عبدالله العجمي

كم هو محزن ما آلت إليه الأمور في هذا الزمن، نرى بأم أعيننا أنّ الأخلاق أمست تكابد سكرات الموت، أمّا الأمانة فقد قضت نحبها وبدأ التاريخ في تجهيز مراسم دفنها.. الوفاء والشرف شاهدا قبريهما في مقابر التاريخ شاخصان، المحزن أن جميع هذه المراسم والشواهد تتم في مقابرنا وبلداننا، فقد أمسينا في زمن ليس كبقية الأزمنة، زمن انتشر فيه الفساد بصورة لا يمكن تخيّلها، أصبح الإنسان يسقط بتسارع رهيب في وحل الرذائل والانحطاط، فالإنسان ما عاد إنساناً بقدسيته ولم يعد جوهره ذا بريق كما خُلِق، تساقطت عنه أنواره وقدسيته بعدما صبّ اهتمامه وتفكيره على أخيه الإنسان، فأضحت الدماء بنداً رئيسياً لا تنعقد أي صفقة إلا بعد توظيفها فيها، وما هذه المؤتمرات والحوارات التي يتم تنظيمها بين أغلب حكومات العالم ومعارضيها إلا مزادات للتفاوض على هذه الدماء البريئة.

فحينما نرى أنّ الكثير من الأرواح البريئة صارت تزهق بكل برود وبلا ورع، وتراكم أكوام اللحوم البشرية وأشلائها على ضفاف أنهارالدماء التي ترويها يوميا دموع الثكالى والأيتام، وعندما صارت أعداد القتلى أرقاماً تمر علينا في قنوات التلفزة ولا نعير لها بالاً واهتماماً لكثرتها، أصبحت وَيْكَأنّها نشرة من نشرات الطقس في تلك المنطقة أو الدولة، حينما يمر هذا المشهد أمام ضمير أي إنسان حيّ ويقِظ يدرك أن السقوط إلى الهاوية بات قريباً، بل قريبا جداً، وسنصبح حينها في قعر تلك الهوّة التي حذرنا منها حينما كنا على شفاها.

ليس هنالك خطر داهم في زمننا هذا أخطر من تيه إنسانية الإنسان العربي وضياع مبادئه وقيمه؛ ولطالما علت أصوات بعض المفكرين قائلة: إن الحضارة حينما تغيب عنها القيم؛ والإنسان حينما تنسلخ عنه الأخلاق؛ يصبح حينها آلة بلا رحمة بيد غيره وسيفا مسلطا على رقاب البشر وأرواحهم، نعم وللأسف فقد ضاعت كل تلك القيم التي كانت مضرب المثل للإنسان العربي قديماً، ضاعت خلف سعي هذا الإنسان إلى التوحّش متمرداً على فطرته التي فُطِر عليها، فامتزجت أغلب البلدان العربية -إلا القليل منها- بالدماء والدموع معاً، في حين تضج شوارع دول أخرى بضحكات المترفين غير آبهين بما يحصل لأشقائهم.

وفي خضم ما نعيشه فإننا نعلم جميعنا سذاجة من يتخيل مجتمعاً مثالياً لا يمكن أن يتسلل الشر إليه، فالشر يستحيل أن يختفي وكذلك الظلم لأنّ الإنسان بطبعه يميل إلى الانجرار خلف الشهوات والغرائز، ولكن أن ندعو إلى هذه المثالية والسعي إليها لهو الحكمة بعينها، لأنّه لمجرد الدعوة إلى السمو بالأخلاق إلى كمالها والارتقاء بالضمائر إلى نقائها فإننا نستشرف المستقبل المرجو والمتخيل من هكذا أحلام.

وليس مطلوبا منا تفعيل كل ما يتطلبه ذلك العالم المثالي بقدر سعينا إليه، فالغاية من مثل هذه الدعوات إنما تهدف للوصول إلى مقامات أعلى وأسمى مما نعيشه حاليا، فكلما ارتقينا سُلّم الكمال فهو مؤشر على أننا نعيش في عالم أفضل، فكما قيل أنّ الاجتماع على أدنى الكمال خير من الاختلاف على تحققه تاماً في الجميع، ومن الكمال أيضاً أن ندرك نقصنا.

إنّ تقدم الحضارات مطلب مهم ولكن أن يكون تقدمها بخطى واثقة، وألا تغفل القيم والمبادئ السامية، لا أن تتقدم بإهمال الروح وطمرها في مكبات الرذيلة والانحلال الخلقي، فمهما بلغت أي حضارة من تقدم فلا بد لها أن تسخّر المادة التي هي محور تقدمها لخدمة الإنسان وروحه الذي هو قطب هذه الحياة ورحاها، أمّا إذا قامت تلك الحضارة على تدنيس القيم وانحلال الأخلاق فهي وبالٌ على الكل، فبينما كان في الماضي السيف هو السلاح الأوحد، فقد استُبدل هذا السيف الآن بضغطة زر تبيد شعبا بأكمله.

وللأسف أيضًا ولأن البلدان العربية تخلّفت عن ركب معظم الحضارات المجاورة فالكثير اعتبر أنّ الإسلام هو السبب في هذا التخلف، بينما في الحقيقة نحن السبب بما شوّهناه بأفعالنا، ولنكن على يقين أنّ أي تغيير لأوضاع أمتنا لا بد أن يحدث وفق تغيير جوهري في عقولنا وطريقة تفكيرنا الذي بدونه لن نصحو من سباتنا ولن تتغير حياتنا، ألا نرى أن أحلامنا صارت واقعاً لحضارات مجاورة.

وبما أنّ أولى خطوات تحقيق تلك الأحلام هي الاستيقاظ من النوم، إذاً فلنستيقظ،