التنقيب عن مُرتكزات الحضارة العربيّة القديمة في عُمان عبر "ظلال الأسلاف"

 

 

 

سماء عيسى *

* شاعر وكاتب عُماني

 

 

يهدي مؤلفا كتاب "ظلال الأسلاف.. مرتكزات الحضارة العربية القديمة في عمان"، العمل إلى مجتمع الصيادين في رأس الجنز الذين مدوا لهما يد العون للكشف عن مجد أسلافهم الأوائل والإهداء موصول إلى العمانيين الذين ينتمون إلى هذا المجد.

وصدرت ترجمته العربية وأحد مؤلفيه عالم الآثار الفرنسي البروفيسور سيرج كلوزيو وهو أستاذ آثار الشرق الأدنى بجامعة السوربون في باريس والمتخصص بتاريخ العصور القديمة في شبه الجزيرة العربية، وقد انتقل إلى رحمة الله وذلك بعد حياة حافلة بالعطاء العلمي تاركا العديد من المقالات والأبحاث عن المواقع المختلفة بعمان منذ عصر الهولوسين حتى العصر البرونزي والفترات اللاحقة.

 (1)

يعمد المؤلفان إلى الفصل قصدا بين مجموعات الهومواركتوس (مجموعة الإنسان الواقف) الذين يعيشون على القنص وذلك عن أحفادهم (جماعات الهوموسيبيان) الإنسان الحديث المعاصر، أي الذين يعيشون على الصيد لأنّهم طوروا المهارات الضرورية لاصطياد الحيوانات وهي مصدر غذائهم الرئيسي. هذه المجموعات ابتدأ وجودها منذ نحو 150 ألف سنة من وقتنا الحالي وشرعت في الانتشار في قارات العالم. أما الهومواركتوس (الإنسان الواقف) فقد عاش مليون عام يُطور قدراته الذهنية الفاعلة جيلا بعد جيل لكنه ظل فريسة لأعدائه الحيوانات التي كانت مركز غذائه، لأنّه مثلما كانت الحيوانات مصدر غذائه كان هو أيضا مصدر غذاء لها. وقد كسب الإنسان الجولة الأولى؛ لأنّ إمكانيات الدماغ كانت قادرة على تخزين واسترجاع كل المعلومات والإمكانات الضرورية للسيطرة على البيئة.

ولم يحدث التغير الكبير في حياة الإنسان إلا بعد اكتشاف النار، أي قبل نحو 450 ألف سنة مضت، حين أصبحت في متناول الإنسان بوجه عام. إذ ذاك تحسنت صحة الإنسان بطهي الطعام ودفء الليالي الباردة وطرد الوحوش وزاد متوسط عمر الإنسان وابتدأ في تعلم الجديد من أسرار الأرض.

علماء الآثار يعتبرون أنّ شرق الجزيرة العربية وجنوبها بما فيها اليمن وعُمان تُشكل حضاريا امتدادا طبيعيا ومباشرا لشرق إفريقيا، والتي هي بدورها المهد الأول للجنس البشري. يؤكد ذلك العثور على مخلفات بشرية استخدمتها ما تعرف لديهم بالهومواركتوس والتي تعتبر أسلاف الإنسان المعاصر، ويعود تاريخ وجودها إلى 1.8 – 1 مليون سنة مضت. المؤلفان يتابعان تواجد الهومواركتوس العماني، وذلك عبر دراسة شرق الجزيرة العربية كمعبر عبر من خلاله الهومواركتوس إلى جنوبيّ ووسط آسيا، وعبر دراسة أدوات صيده وأكله التي خلفها مثل الفؤوس الحجرية والمكاشط والسكاكين وأدوات متعددة الأسطح وأدوات ثقيلة (قدوم وقواطع وأزاميل).

ويحدد المؤلفان أنّ هذه السلالة البشرية المبكرة كانت أولا آكلة لحوم ميتة أكثر من كونها جماعات التقاط، إذ أنهم استخدموا لصنع أدواتهم الجرانيت والكوارتز والريولايت. استمر ذلك حتى استطاع الإنسان التحضر في إشعال النار مما قاده إلى تقنية أكثر تطورا في صناعة الأدوات الحجرية أدت إلى نشاطات جماعية حولته إلى مزيد من التحكم في الطبيعة خلال عصر الهولوسين الأوسط.

(2)

وحول منطقة الخليج بصورة عامة يكتب الباحثان أن تلك المرحلة التي تعود إلى 50-40 مليون سنة بحاجة إلى الدراسة، حيث إن الخليج كان سهلا عند سفح جبال زاجروس وقد كانت تغطيه الأعشاب وتشقه مجاري أنهار الرافدين، وكان مرتعا جذابا للإنسان والحيوان وللصيد البري والمائي مثل الأسماك والأصداف والروبيان والبرمائيات. إن أقدم المواقع الأثرية في عُمان قد تمثلت في موقد للنار في عمق جرف حصوي في وادي الوطية بمحافظة مسقط يعود تاريخه إلى 9000 – 8500 قبل الميلاد عدا ذلك ليس من موقع يعود إلى تاريخ أبكر من الألف السابع قبل الميلاد.

بعدها زمنيا اكتشفت رؤوس سهام وحراب بـ "رملة فسد" بمحافظة ظفار، تعود إلى الألف التاسع قبل الميلاد، كما كشف عن موقع أثري يعود إلى الحقبة نفسها برأس الجنز في ولاية صور، وهو موقع مرتفع مثالي للصيادين الذين كانوا يراقبون منه قطعان الحيوانات على امتداد اليوم. بحكم جهل الآثاريين بالحقب الأخيرة منذ ما قبل التاريخ في شبه الجزيرة العربية، كانوا على قناعة تامة بأنّ تلك المناطق خالية من السكان حتى وقت قريب، غير أن الاكتشافات الأخيرة قادت إلى التخلي عن هذه الفكرة واعتبرت المواقع المكتشفة تجمعات لصيادين محليين عملوا في التجارة مع قرى جنوبيّ الرافدين واكتشفت مواقع لمخلفات عظيمة لحيوانات مستأنسة مثل البقر والضأن والماعز وأدوات حجرية كرؤوس السهام وأواني من الطين وغيرها.

أي أنه من الممكن القول أنّه في فترة 500 عام قبل الميلاد، تحولت مجتمعات الالتقاط إلى نظام معيشة أكثر تعقيدا، وذلك بإضافة الحيوانات المستأنسة إلى المصادر الطبيعية التي كانوا يستخدمونها في ترحالهم السنوي بين الساحل والداخل.

إنّ أقدم المواقع البحرية المعروفة على ساحل البحر كان في رأس الحد بولاية صور، وفي السويح بولاية جعلان بوعلي، وهي مواقع تقود إلى نهاية الألف السادس قبل الميلاد، ولكن لا يوجد حتى الآن ما يدل على أن الإنسان ذهب بعيدا عن أرضه في ذلك الوقت المبكر من التاريخ، بل بقي عند شاطئ البحر والبحيرات الضحلة، وذلك حتى الألف الخامس قبل الميلاد، الذي منه بدأت الإرهاصات الأولى والمسارات الأساسية في ارتياد البحار.

(3)

التحول الكبير الأول في الاستيطان الإنساني ابتدأ قبل 400 سنة قبل الميلاد، وذلك مع ظهور الزراعة، التي تطورت عن استئناس النباتات والحيوانات، خلال بداية الهولوسين. ساهم ذلك في توفير الطعام وتطوير الاقتصاد في كل من عالم البحر المتوسط من الهند حتى حدود المحيط الأطلسي، وتغلغلت في إفريقيا وأوروبا وآسيا أي شملت ما نعرفه اليوم بالعالم القديم. ونتج عن ذلك صناعة النسيج، من غزل وحياكة من الصوف والألياف. إلا أنّ عُمان ومعظم شبه الجزيرة العربية ظلت خارج هذه التغيرات، وما يتوفر لدى الباحثين من معلومات عن الداخل العماني شحيح للغاية، لذلك يعتقدان بأن دور الزراعة كان هامشيا حتى العصر البرونزي المتأخر.

إلا أنّه في المناطق الساحلية ابتداء من مستعمرات سكانية في رأس الحمرا حتى خور ملح بقريات ووادي شاب بطيوي حتى صور ورأس الحد ورأس الجنز والسويح، وعلى امتداد الساحل جنوب الأشخرة، تشكلت أسر تدعى بالأسر النووية تتحد وتكون مجموعة محلية، تضم بين أربع إلى عشر أسر. هذا المزيج الفسيفسائي قدّم أول تعريف للقبيلة، إذ كانت القبائل عبارة عن مجموعة جماعات محلية مستقلة، تجمعهم لغة واحدة وثقافة واحدة وتقاليد مشتركة، وتربطهم صداقات وعداوات. وربما كانت هنالك مراكز احتفالات أو معالم تشكل ظاهرة مقدسة يحتفي بها أو عندها، ولم تكن هنالك مناطق قبلية، ولكن كانت هنالك مناطق للصيد، كل واحدة منها تخص مجموعة قبلية. لم يكن هنالك هيكل لسلطة القبيلة يحوي رؤساء ولا إقطاعيات أو عشائر تخص قادة القبائل، وربما - مثلما يذهب الباحثان- من دون أسلاف مشتركة.

الإشكالية في كل ذلك التطور البطيء اجتماعيا واقتصاديا، مرده حقب جفاف طويلة مرّت وتمر بها عُمان منذ القدم، الأمر الذي أدى إلى بقاء واستمرار مظاهر الاقتصاد المعيشي الخاص بالعصر الحجري حتى نهاية الهولوسين الأوسط. بينما كان العالم قد اندمج في اقتصاد إنتاجي بما في ذلك إيران ومكران على الضفة الأخرى. وأدى ذلك إلى تفاعل المستوطنات الساحلية العمانية معها، ابتداءً من 3400 سنة قبل الميلاد، وهي المستوطنات التي اكتشف الآثاريون آثارها في وادي شاب وموقع السويح بجعلان بني بو علي ورأس الجنز بصور.

(4)

البحث في مدافن تلك الفترة البعيدة في المناطق المحاذية للبحر أشار إلى وجود معتقدات لدى البشر آنذاك بتحولهم بعد الموت إلى سلاحف، وهو أمر يدور في مخيلة الصيادين الذين يتعرضون دوما لمخاطر الغرق في البحر. كشفت الأبحاث الأثرية عن مدافن صائدي الأسماك في حقب ما قبل التاريخ في رأس الحمرا والتي تكشفها ظواهر أخرى، نحو وضع ثلاثين حصاة أو تزيد، كاملة الاستدارة على سطح المدفن، والقصد من هذا الحصى هو تقليد بيض السلحفاة في العش، ذلك أيضا ما كان سائدا بالهند في مجتمعات الصيادين حيث يعتبرون السلاحف بحارة قدماء.

رأس الحمرا آنذاك مثلما كشف الآثاريون، كان موقعا استراتيجيا منح الجماعات البشرية مواد غذائية من حيوانات ونباتات وكل أنواع المواد الخام في حقب ما قبل التاريخ. إن كلّ ما كشف عنه الآثاريون يدلل على وجود تنوع معيشي بها كصيد الأسماك وجمع النباتات والرخويات والمحار والصيد البري للغزال والبقر الوحشي والوعول، وقد كشفت التقنيات الأثرية بالموقع عن 215 مدفنا، كشفت للعلماء معاناة السكان آنذاك، من أنهم عانوا عزلة جينية، أدت إلى انخفاض نسبة السن التي لم تتجاوز الثلاثين سنة وهي في الغالب دون ذلك، خاصة الإناث حيث تحدث الوفاة أثناء الحمل وعند الولادة.

ويكتشف علماء الآثار أنه من هذا الموقع برأس الحمرا، فضلا عن مواقع أخرى مثل وادي شاب أو السويح بجعلان، حدث بها تدريجيا ما يدعى بالتحول الكبير، إثر العثور بهذه المواقع على مواقد النار وأعمدة أكواخ، ومواقع لتجفيف الأسماك الذي يفيد بتضاعف عدد السكان بهذه المواقع الأمر الذي هيأ لعُمان أن تكون بعد ذلك ضمن دائرة التبادل التجاري العالمي خاصة بعد بداية إنتاجها وتصديرها مادة النحاس.

لذلك يحدد المؤلفان عام 3100 قبل الميلاد على وجه التقريب بداية التحول الجديد ومن أبرز معالمه دفن الموتى في الفضاء الخارجي عنه في المستوطنة، ما يشكل مؤشرا لنظام إقليمي وسياسي جديد، يعزز ذلك اكتشاف قرية صغيرة حوت بيوتا حجرية متلاحقة في موقع 1-RG برأس الجنز، على قمة هضبة. حوت البيوت غُرفا مستطيلة، وقد استخدم السكان أدوات معيشتهم، أدوات نحاسية بما في ذلك صنارات الصيد والفخار. في الفترة إياها اكتشف الإنسان بالموقع إيّاه بداية بناء الأكواخ بالطوب، وفي مرحلة لاحقة ابتداء استخدام النحاس بصورة أوسع في صنارات الصيد والأوتاد والسكاكين والأزاميل وصناعة الخرز الذي استخدمه الإنسان في المقايضة التجارية.

هذه هي مؤشرات التحول العظيم في عُمان، والذي بدأت فيه الصلات العشائرية تطغى على نظام الأسر الممتدة، وأصبحت القبيلة فيه أساس العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.

هذه المرحلة من التاريخ هي المرحلة التي يطلق الأثريون عليها مرحلة العصر البرونزي، وبعد فإننا لا نملك أدلة دقيقة لمهاجرين سومرين، أو من جنوب شرق إيران، هم الذين أتوا بعوامل بداية استقرار اجتماعي في عُمان آنذاك. المثل الأبرز هو نظام الري الذي ساد الاعتقاد بأنه جاء من جنوب شرق إيران، ولكن هل كانت هناك هجرات سكانية عبر مضيق هرمز من الشرق الإيراني واندمجت مع ساكنيه، الحق أنه لا تتوفر أدلة كافية تؤكد أو تدحض هذه التفسيرات، وما يتأكد منه الباحثون استجابة سكان عُمان آنذاك لهذه التغيرات، التي طالت آلية الاقتصاد والذي أصبح معتمدا على المشاركة والمقايضة بين مجموعات بشرية متعددة.

(5)

تشكل المقابر الركامية منفردة أو مجتمعة معالم مألوفة في الأفق العُماني، تكاد تجدها في كل مكان في عُمان مجتمعة أو منفردة. على الحافات الصخرية، تطل على الطرق والواحات والأودية، على الروابي المنعزلة ومنحدرات التلال وحواف الجروف الصخرية المُطلة على البحر والهضاب المنخفضة القريبة منه. بتقدير عام يزيد عددها عن مائة ألف في سلطنة عمان، وتتخذ أشكالا بعضها دائري والآخر بيضاوي أو مربعة أو مستطيلة. يطلق عليها الأثريون: المدافن الركامية.

الغريب أنّ الناس الآن يعتقدون وجودها وأسبابه مخالفا للحقيقة، إذ يعتقد الناس في جعلان بني بو علي أنها مخابئ للسلاح أو مخازن أو شراك للذئاب والأسود.

التنقيبات الأثرية كشفت هياكل وعظاما بشرية لذكور وإناث بمختلف الأعمار، ومعها دفنت أدوات وحلي ومجوهرات الميت، الأمر الذي ساعد على تحديد زمن المدافن وساكنيها، إذ وصل تحديدها إلى 300 سنة قبل الميلاد، من خلال العثور على جرار صغيرة في مدافن رأس الحد متطابقة في بنيتها وشكلها وحجمها وزخرفتها مع الجرار التي صنفت في وادي الرافدين خلال فترة حضارة جمدة نصر وقد أثبتت التحليلات الكيميائية للجرار أنّها منتجة من وادي الرافدين. هذه الجرار عُثر عليها في مقابر مختلفة بعُمان، ويبدو أنّها حوت سلعا أخرى لم يسعفها الزمن بالبقاء.

مع الأسف الشديد معظم المدافن امتدت إليها يد العبث، لذلك أمدتنا بكميات قليلة للغاية من الأدوات والشظايا العظيمة. الهياكل وضعت داخل غرف جنائزية بزينتهم الشخصية، التي تشمل عقودا وأساور من الخرز ودبابيس من النحاس، بالإضافة إلى أدوات وأسلحة، وجدت أيضا أكاليل ذهبية وعقود من العقيق والخرز الذهبي وأمشاج من العاج.

إلا أنّ كل ذلك يشير إلى بدايات ظهور مجتمع استقرار عائلي أو قبلي في عُمان، أي منذ نهاية الألف الرابع قبل الميلاد. إذ إنّ تطور هذه المقابر لكي تستوعب أعدادا كبيرة من المدفونين كما هو في مدفن هيلي–n ، الذي يتراوح عدد المدفونين به إلى ما يصل ألف فرد، كل ذلك يؤكد وجود مجتمع قادر على الوقوف في وجه القوى الكبرى في ذلك الزمان.

(6)

لذلك يعود المؤلفان إلى البحث عن آثار المستوطنات الزراعية الكبرى التي يؤرخ لها ابتداءً من الألف الثالث قبل الميلاد، والتي يدعونها تدجين الصحراء. كُشف عنهما في مواقع بات وبسيا وعملا والميسر وغيرها بالقرب من عبري وينقل وبهلا ونزوى وعلى امتداد وادي عندام إلى الداخل. يؤكد ذلك في موقع "بات" المقابر بأعلى الهضاب الصخرية ثم القبور الركامية في مناطق مثل وادي بطحاء، ما يعني أنّه كان في قديم الزمان منطقة استقرار سكاني زراعي خصب، بخلاف اليوم أرضا جرداء خالية.

ما ينتبه إليه الباحثان، أنّ وجود الواحات والمقابر الركامية في مكان وزمان واحد لا يعنى بالضرورة أن كل واحة في عمان ظهرت في ذات التاريخ. في بات على سبيل المثال توضح الدراسات الأولية بأن أشجار النخيل والحبوب زرعت في هذا الموقع منذ 270 قبل الميلاد.

ويعتبر الفلج أقدم طريقة ري تقليدية بعُمان، وهي طريقة بارعة ومعقدة، استخدمت لتجلب المياه عبر آلاف الكيلومترات، وهنالك اتفاق عام بين المختصين بأنّ هذا النوع من نُظم الري قد جلب من إيران إلى عمان نحو عام 1000 قبل الميلاد، مما ساعد على تطور مستوطنات العصر الحديدي، ربما تحت النفوذ السياسي الفارسي. وذلك من وجهة نظر الدارسين يحتاج إلى نوع من السلطة السياسية المركزية. وهو ما كان مفتقدا في عُمان آنذاك. أهم مساندي هذا الرأي الأستاذ جون ولكنسون، الذي يؤكد على أنّ النظام السياسي الإداري العماني التقليدي يتعارض مع المركزية وتركيز السلطة وبالتالي لا يتواءم مع نظام للري كهذا.

في كل الأحوال يؤكد الباحثان أنّ نشوء الواحات كان بمثابة ثورة حقيقية ذات تأثيرات بعيدة المدى وأحدثت هذه الواحات تحولات جذرية في عُمان، سواء كانت ثقافية أو في أنظمة البيئة.

ساهم هذا الاستقرار الزراعي في نمو التجارة المحلية والخارجية، رغم انعدام المركزية السياسية الحقيقية في الألف الثالث قبل الميلاد؛ ولأنّ مراكز الاستيطان البشري الكبرى في الشرق كمصر ووادي الرافدين ووادي السند بآسيا شكلت شبكة من الاتصالات نظمت أسباب التجارة، ولذلك أصبحت عُمان بنهاية الألف الرابع قبل الميلاد مشاركة في هذه الاقتصاديات، مؤذنة بتحول القبائل إلى أنظمة سياسية أكثر تعقيدا، وتطورت تجاريا من مركز تجاري بسيط لتصدير النحاس إلى وسيط رئيس بين المراكز الكبرى في الشرق والغرب، تأكد ذلك إثر الاكتشافات التي قادت إلى وجود اتصالات كبرى مع حضارة الهارابا بالهند ومستوطنات رأس الجنز وراس الحد في نحو 2500 قبل الميلاد.

من جهة أخرى أصبحت عُمان مصدرا أساسيا لتصدير النحاس إلى بلاد الرافدين وإيران، إذ أول ذِكر للنحاس في عمان اكتشف في نص مسماري مؤرخ لنحو 2400 قبل الميلاد. كما ذكر في النصوص المسمارية أيضا النخيل والقصب من عمان.

ما هو جدير بذكره أنّ الانتقال عبر البحار والأنهار سبق الانتقال البري عبر الدواب، الذي ابتدأ فقط قبل 3500 سنة قبل الميلاد، في الوقت الذي تمّ فيه اكتشاف التواصل البحري بين الخليج العربي وجزر البحر المتوسط يعود إلى الألف السادس قبل الميلاد.

لاحقا أطلق سكان وادي الرافدين اسم أرض مجان على عُمان. دلائل ذلك ظهور اسم أرض مجان في نص سماري للملك سرجون الأكدي، مؤسس أول امبراطورية في بلاد الرافدين.

ربما يكون ذلك سابقا على هذا الاكتشاف، ولكن حتى اكتشافات قادمة من المستقبل يظل هذا النص هو الأقدم لدينا. فترة مجان تعتبر أوج الحضارة العمانية القديمة، لعب فيه العمانيون الدور الأكبر في نظام التجارة العالمية بوادي الرافدين وسوريا وإيران وحضارات السند والقرن الإفريقي. ثروة مجان المعدنية خاصة النحاس والديورايت جذبت إليها العديد من الفاتحين ذوي الطموحات الكبيرة، مثل ملك وادي الرافدين مانيشتوشو وابنه نارام سن، كذلك الحال في العلاقات مع حضارة السند القوية بباكستان والهند.

بينما شهد شمال عُمان خلال الألف الرابع قبل الميلاد التغيرات الاجتماعية والسياسية الهائلة، فإن جنوبها في ظفار بقي لوقت أطول تحت أحوال اقتصادية واجتماعية أقل تعقيدا، وربما استمرت حتى النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، إلا أنه استقاءً من مختلف المصادر التاريخية من مثل هيرودوتس وبليني وبطليوس وسترابو وثيوفراسطن وديودروس الصقلي وآخرين، نعثر على أن ظفار شهدت وضعا تاريخيا هاما من خلال تصدير اللبان منذ منتصف القرن الأول قبل الميلاد. وكان اللبان يجمع في ميناءين رئيسيين على ساحل مخا/ موشكا والذي يعرف اليوم بخور روري، وسياغروس هو "رأس فرتك" الحالية، ومن هنالك كان يشحن شرقا بالسفن إلى الهند والخليج العربي أو غربا على طول ساحل اليمن وصولا حتى سواحل البحر الأبيض المتوسط، ثم الكشف عن خور روري لأول مرة في الخمسينيات، وهو قلعة مستطيلة مدعمة بأبراج ومبنية من الحجارة على جبل منخفض يطل على شرق خور روري، وقد بنيت باسم سمهرم بواسطة ملك شبوة الحضرمي، ربما في القرن الثاني من القرن الأول الميلادي، مثلما يرجح علماء الآثار.

-----------------------

- الكتاب: "في ظلال الأسلاف"

- المؤلف: سيرج كلوزيو - موريسيو توزي

- ترجمة: د. عباس سيد أحمد محمد علي

- الناشر: وزارة التراث والثقافة - 2012

تعليق عبر الفيس بوك