لا تحدِّثني عن الوطن

 

 

د. صالح الفهدي

الوطنية ليست جَوَاز مرور، ولا بطاقة هُوية، ولا عَلماً يرفرف، ولا نَشيداً يُرتَّل، ولا قصيدةً تُلقى، ولا أغنيةً تؤدَّى، فتلك رموز وشعارات معبِّرة، أما الوطنية في جوهرها فهي أفعال، وتضحيات، وصفات ومشاعر.

الانتماء إلى الوطنِ ليس مجرد كلمات مزخرفة على رسمةِ قلب، وإنما أعمق من ذلك بكثير. وما لم يتشرَّب كل مُواطن بمعاني الانتماء لوطنه منذ بواكير عمرهِ، فإنه لن يتعرَّف على كنهِ الوطنِ وأصالتهِ، وسينشأ وهو يردد كلمات خاوية تفتقد إلى الروح..! وعندها لن يكون الوطن إلا مجرد أحرف لا يفهم معناها، وكلمة لا تدرك قيمتها..!

كَمْ هم الذين يدَّعون حُبَّ الوطن، والوفاء والإخلاص له، وهم أبعد الناسِ عن معانيهِ، وأقصاهم عن محبته..! ادَّعوا الانتماء للوطنِ وأفعالهم تُناقض ما نهضت به دعائمه الأخلاقية والتاريخية.

قيمة الوطنية في شعورِ الفردِ بالغيرةِ على وطنه، فإنْ طاله أحد بإساءة شعر بأن الوطن ذاته وأن الإساءة قد وخزته في الصميم فلا يغمض له جفن، ولا يهدأ له خاطر.

قِيمة الوطنيةِ في أنْ يكون المواطن هو الوطن ذاته متجلياً في قيمهِ، وأعرافه، وعاداته، ومطامحهِ، وعزائمه، وتاريخهِ وأمجاده، حينها يكون خير معبر بأفعالهِ لا بمجرد أقوالهِ عن وطنهِ بالعملِ الدؤوبِ، والتفكير الناشط، والتضحيات العظيمة بكل ما يسهم في نمائه وازدهاره ورقيه.

قيمة الوطنيةِ في أن يكون المواطن خيرَ من يُمثل وطنهِ بنبلهِ، وفضيلته، ومكارمهِ، ومحامده، فإن أساء في تمثيله هذا فإنه لن يتضرَّر بقدر الضرر الذي يناله الوطن؛ إذ إنَّ اسم وطنه لا اسمه هو من تطاله سوء السمعةِ عند الآخرين..!

إنَّ الذين لا يتدبَّرون العواقب التي ستحل على أوطانهم من جراءِ أفعالهم قد جنوا على مجتمعاتهم، فدمَّروا أوطانهم، وسحقوا مكتسباتها، وهدموا معطياتها ومنجزاتها، وما ذاك إلا أنانية نفس، ورداءة بصيرة، وقصر نظر سواءً كانوا ساسةً أو وعاظَّ أو عوامَّ أو أحزاب أو جماعات..!!

وعلى غرار المقولة المأثورة "لا تحدثني عن الدين كثيراً، ولكن دعني أراه في أفعالك"، نقول "لا تحدثني عن الوطنِ كثيراً ولكن دعني أراه في أفعالك".. فكم هم أولئك الذين يتشدقون بالوطنية والافتخار بالوطنِ وهم أوغر الصدور حقداً عليه، وأكثر الناسِ مزايدةً عليه، وأسرع الناسِ وشايةً فيه، وأبخس الناس تقديراً له.

فكيف يتأتى هذا التناقض إلا في قلب عليل الضميرِ، ساقطِ الذمَّة؟!

يتفاخر بانتمائه لوطنه، ويتشدَّق بحبه وهو يخونه بالرشاوى وينهبه بالسرقات، ويتغوَّله بالتدليس والتحايل...!

يتفاخر بانتمائه لوطنه، ويتشدَّق بحبهِ وهو الأناني المقيت الذي لا يعرف حقًّا في الوطنِ غير حقه، ولا استحقاقاً غير استحقاقه، فهو وحده أهل للمكارمِ، والهباتِ، والفضل..!

يتفاخر بانتمائه لوطنهِ، ويتشدَّق بحبه وهو الخالع عنه رداء الحياءِ، المسقطِ كساء الحشمةِ، الرامي نفسه في وهمِ الهوى، وجهل الضلالات، سعيداً بكثرة مضلليهِ وأتباعهِ، متفاخراً بشذوذ شطحاتهِ، ونزواتهِ غير واع بما يحفر لنفسه، ويمكر لوطنه..!

إنْ لم يُدرك المواطن معنى الوطنية، فلن تتواءم مصالحه مع مصالحِ الوطن، فحينها ستسقط الأمانات، وتكثر الخيانات، وتسود الوشايات، وتعم التحزُّبات، ولن يبقى للوطنية من معنى إلا في قصائدِ الشعراءِ، وأغانِي المطربين، وأهازيج المنشدين..!

إنَّ قوَّة الأمة لا تكمُن في عتادها العسكري، ولا في قوتها الاقتصادية، ولكن في عقيدتها وعزيمتها، وأفكارها، وروحها. يقول جلالة السلطان قابوس -حفظه الله ورعاه- بعد عشرةِ أعوام من توليه حكم البلاد: "كُنا فقراء في كل شيء، لكن كنا أقوياء في أصالتنا وعقيدتنا وفي عزمنا وإصرارنا على النجاح رغم كل العراقيل والعقبات التي كانت تعترضنا".. هذا هو الغنى الحقيقي الذي لا تبنى الأوطان بغيره، ولا تعلو أركانها دونه.

ليس للوطنيةِ من مواسم فهي عقيدة ثابتة في الصدور، وأعمال جلية في التضحيات، ولسنا بحاجة إلى أن نقول بأن علينا جميعاً أن نبرهن على وطنيتنا في كل محفل ومناسبة، وكل ظرف وحال، وفي كل مقام ومقال لأن الوطنية حالة راسخة في الضمير، ممتزجة بالروح.

إنَّنا جميعاً مسؤولون عن الوطن في كل شأن، وفي كل آن. هذه المسؤولية تفرض علينا أن نكون أمناء عليه، ومخلصون له. كما تفرض علينا أن نسمو بأنفسنا فوق مصالحنا الضيقة، ومطامحنا القصيرة لكي تبقى للوطنِ عزته، وكلمته، وتاريخه.

فما عَلَت أوطان إلا بأهلها وما دَنَت إلا بهم. إن ارتقوا ارتقت الأوطان، وإن ذلوا ذلت بهم. وما يبنى من مجد، ولا ينال من شرف إلا أن تتضافر الأيادي، وتتعامد السواعد، وتتحد الصفوف، وتتناغم الآمال، وتنسجم العزائم.

فلا تحدثني -بعد كل ذلك- عن الوطن بل دعني أراه في أفعالك.