من الخطر الشيوعي إلى الخطر الإيراني!!


علي بن مسعود المعشني

عام 1917م قامت الثورة البلشفية الشيوعية لتنقلب على القيصرية والكنيسة الأرثوذوكسية في روسيا الاتحادية ثم قضمت عددا من البلدان والشعوب المجاورة لتشكل فيما بعد ما عُرف بالاتحاد السوفيتي فالمعسكر الشرقي. وكلمة "سوفيت" في اللغة الروسية (والنطق الصحيح لها "سافيت") تعني "النصيحة" أما كلمة "سافيت" ككيان والتي اشتق منها اسم الدولة فيما بعد فكانت الاسم الذي أطلق على أول مجلس محلي للعمال أنشئ في مقاطعة "إيفانافو" في عهد الإمبراطورية الروسية السابقة عام 1905، وكان هو أحد محركات الثورة البلشفية ضد النظام القيصري الروسي. استلهمت الثورة الشيوعية الوليدة أدبيّاتها من نظريات عالم الاجتماع الألماني كارل ماركس في العدالة الاجتماعية والصراع الطبقي والنظرة للدين وتوظيفه كأفيون للشعوب أو ارتقاء للتاريخ. ورغم النظرة التعميمية السائدة للثورة البلشفية على أنها حاجة روسيّة خالصة ناتجة عن الصراع الطبقي وانهيار منظومة العهد القيصري وضعفه إلى أن هناك قراءات عديدة مهجورة تتحدث عن مؤامرة غربية/ يهودية على القيصرية الروسية وكنيستها، ودليلها أن مفجري الثورة وقادتها ومنظريها هم من اليهود وأنّها مجرد حلقة في سلسلة الصراع بين الكنيستين الشرقية والغربية واللتين تختلفان في جملة من العقائد والقناعات إلى حد التضاد والتصادم ولغاية هذا اليوم. ولهذا الموضوع حديث آخر يطول كثيرًا.
استشعر الغرب الرأسمالي خطر الشيوعية على قيمه وأدبياته، وأعتبر الصراع معها صراع وجود على اعتبار أن ما تدعو إليه الشيوعية يمثل نسفا لما تقوم عليه الرأسمالية وتبشر به حول العالم. لهذا جعل الغرب الشيوعية والاتحاد السوفييتي على رأس قائمة أهدافه في حروبه النارية والباردة والدعاية المضادة والتضليل، ولم يكتف الغرب بذلك الموقف بل قام بعد الحرب الأوروبية الثانية (العالمية) بإعادة إنتاج شيوعية وديعة وداجنة ويسار ناعم في منظومته السياسية والاجتماعية ليقوم بتصديرهما للعالم كبديل عن الأصل الصلب العنيد والمناوئ له في كل شيء.
لهذا فلا غرابة أن نجد اليوم أحزابًا شيوعية واشتراكية في أوروبا تتداول السلطة بكل وداعة في بلدان رأسمالية وتمارس القشرية الفكرية والسياسية وتعادي المعسكر الشرقي الذي تتنسّب لفكره وخندقه ظاهريًا وبلا هوادة!!
لم يكن الغرب الرأسمالي لوحده من يحارب الشيوعية بل جيش جميع حلفائه في العالم ومن جميع الأديان والقوميات ليصطفوا في خندقه مروجًا ومسوقًا لبضاعته ومحذرًا ومنذرًا من عواقب الشيوعية "الناسخة للأديان والداعية للإلحاد" والمعادية للحريات ومبشرًا برأسماليته وقيم الديمقراطية والحريات والعدالة الاجتماعية.
لاشك أن الغرب كانت حججه ألحن من الشيوعية لدى الشعوب الفتية والتي باغتها الغرب وأبهرها بتسويقه البارع لنفسه وقيم ثوراته الفرنسية والأمريكية مقابل استبداد الشيوعية وعقم آلتها الدعائية وبدائيتها، إلى درجة أنّ الشعوب تلقت تلك الدعاية الغربية كمخدرات عقلية أنستها بأنّ أحفاد تلك الثورات الغربية "المضيئة" هم من يستعمر العالم ويُنصِّب الطٌغاة ويعادي الثورات والحريات وينهب ثروات الشعوب ومقدراتها ويغتال كل نبض وطني لأي حراك فيها.
المضحك المبكي هو أنّ الشعوب والنُظم التي استبسلت في الدفاع عن قيم الرأسمالية الغربية من غير الغرب ووقفت ضد الشيوعية بكل بسالة وصلابة، وخاضت حروبًا بالوكالة عن الغرب هي شعوب ونظم لم تعلم شيئا عن الشيوعية من منشأها الأصل بل كما سوقت لها عبر البوق الدعائي الغربي لا أكثر في تجسيد لحالة متقدمة جدًا من حالات حصار العقل وتغييبه واستعارة فكر وقناعات.
إنهار الاتحاد السوفييتي عام 1991م على أيدي الرفيق جورباتشوف ورفاقه بفعل إسقاطهم لسر الصراع مع الغرب وتبنيهم لنهج "إصلاحي" يجعل من الاتحاد السوفيتي كيان مسخ بلا لون ولا طعم ولا رائحة. ولتوافق إرادة دولية بضرورة انهيار المنظومة السوفيتية وتفكيكها، وهذا التوافق والإرادة الدولية يتشكلان اليوم ليسقطا الرأسمالية المتوحشة في الغرب بلا طقوس أو مراسم في لحظة تاريخية آتية لا محالة. بعد انهيار الشيوعية – وكما يروج الغرب وحلفاؤه – كان لابد من خلق عدو جديد ليستمر سر الصراع وجني الفوائد والمصالح، ولتدور عجلات الاقتصادات الغربية من افتعال الحروب والأزمات، فوقع الخيار على الإسلام، وجميعنا يعلم نصيب بلاد الإسلام والمسلمين من الحروب والتشرد والمجاعات والتمزيق والفقر والإرهاب وخاصة منذ عام 1991م ولغاية اليوم.
حلفاء الغرب من المسلمين سقطوا أخلاقيًا في غمار الحرب الغربية على الإسلام والمسلمين وكأنهم غير معنيين بشيء من هذه الحرب العبثية المجانية بل وكأنهم غير مسلمين من الأساس، فكان العنوان الجديد الأطرب لتلك الحرب ولدفع العمالة والحرج هو "الخطر الشيعي" أي تجزئة المسلمين بين "ملائكة" في الخندق الغربي و"شياطين" يتعاطفون مع إيران ويتفهمون حراكها ومصالحها. ولم يكتف المعسكر الأمريكي بهذا العنوان ويتوقف عنده بل صور للعالم بأن الحرب في أساسها بين أهل سنة موحدين وشيعة مارقين يتربصون بالإسلام والمسلمين ومشاعرهم المقدسة في أية لحظة لهذا رأينا عددا من المسؤولين الغربيين والصهاينة وفي أكثر من مناسبة يتحدثون عن "مظالم" أهل السنة وكأنّهم منهم أو ممثلين لهم.
لهذا لم يتردد أو يخجل الطابور الأمريكي اليوم من التحالف الصريح حتى مع الشيطان الصهيوني الغاصب لتحقيق شعاره وبلوغ غاياته، وبما أن الطابور الأمريكي يستحيل عليه الجهر البواح بصداقته مع الكيان الصهيوني وتبرير عدائه الصارخ لإيران لحقيقة دعمها للمقاومة فقد روّج لفقه الأولويات في سياسته بأن إيران اليوم أخطر من إسرائيل!! لتتقاطع مصالح أعداء إيران (العرب والصهاينة) خدمة للمشروع الصهيوني في المنطقة وتمارس الميكافيلية السياسية في أجلى صورها، فاستدعى التاريخ والجغرافيا والبخاري ومسلم وتفسير الطبري ومسيلمة الكذاب ليبرهن هذا لطابور للمستحمرين من أتباعه بأنه الحق في قوله ومسعاه وما عداه باطل وفاجر ومتربص وكائد. الطابور الأمريكي يتحدث عن تحرير فلسطين ويتمنى الصلاة في القدس العربية المحررة ولكن بوجود اليهود "المساكين" في الضفة الأخرى لفلسطين أو في قلبها!! ويدعي نصرة فلسطين ولكنه يصف من ينتصر لها بالإرهابي!! يروج بكل قوة لحل الدولتين وفرضية الأرض مقابل السلام لكي لا يتعرى كليًا ولكنه فشل في كليهما، فلم يستوعب بعد هذا الطابور البائس بأنّ ما كان ممكنًا تمريره قبل عام 2006م لم يعد ممكنًا اليوم، فكل شيء على الأرض وفي الفضاء وفي العقول قد تبدل وتغير، فتيار المقاومة اليوم هو من يفرض المبادرات ويرسم الواقع ويهدي المستقبل ويقسم الأدوار، وهو طوق النجاة لمن يشاء، ولن يفرط مطلقًا في انتصاراته العظيمة وتضحيات أبنائه الجسيمة وتطلعات أمته المجيدة ولن يقايض كذلك وهو في خندق القوة والانتصار والتوسع والانتشار.
الطابور الأمريكي يروج بأنّ إيران لها مشروع في المنطقة دون أن يحدد هذا المشروع، ويروج للخطر الإيراني دون تحديد لهذا الخطر، ولا يتحدث عن المشاريع الأخرى في المنطقة ولا عن الخطر الصهيوني الوجودي وشعار من الفرات إلى النيل، ويسوق إيران كعدو بديل وشيطان متربص، بينما الواقع يقول بأنّ إيران نعم خطر ولكنها عليهم فقط، ولديها مشروع نعم ومضاد لمشروعهم لاشك في ذلك، وتدعم فصائل مقاومة نعم والتي تصنف كمنظمات إرهابية من قبل طابور أمريكا، هذا الطابور الذي لا يمتلك مشروعا ولا هدفا سوى أن يكون أدوات مسخرة لأمريكا ومصالحها في المنطقة. العقلاء يفهمون بأنّ الصراع صراع مشروعين تطبيعي ومقاوم، وأنّ إيران الشاة كانت في خندق التطبيع لهذا كانت سمنا على عسل، بينما إيران الثورة اختارت خندق المقاومة لهذا تحولت إلى علقم.
كما يفهون بأنّ الطائفية والشيطنة والكذب والتضليل هي من أدوات الطابور الأمريكي وأسلحته الفتاكة اليوم لتحقيق مآربه. كما يتفهمون سر سعار وعويل طابور أمريكا اليوم بسبب خسائره الجسيمة وإفلاس مشروعه وبوار رهاناته.
لاشك أنّ الثورة الإيرانية عام 1979م أحدثت زلزالًا تاريخيًا على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي، ولاشك أنّ تيار التطبيع اليوم في أوهن حالاته وإفلاسه السياسي والعسكري، ولاشك أنّ صلابة الموقف الإيراني تجاه القضية الفلسطينية رغم كل الحروب والمؤامرات والترهيب والترغيب أسقط أقنعة زائفة كثيرة وسحب البساط من تحت زعامات وهمية فارغة لعبت أدوار البطولات في أزمنة الهزائم وكشفت حقيقتها الانتصارات المباغتة وقواعد الصراع، ولم تعد تستطيع مواكبة مستجدات الواقع وفرضياته سوى بالانغماس أكثر وأكثر في العمالة وتبرير تلك السلوكات المشينة بمخاطر وأعداء وهميين لاوجود لها سوى في عقولهم المريضة.
اليوم فقط، يظهر على خشبة المسرح جميع "أبطال" مسرحية التحالف الأمريكي، من ممثلين ومخرجين وفنيين وعُمال ومنتجين في تجل واضح وقهري لنهاية الفصل الأخير من مسرحية بدأ فصلها الأول عام 1955م بمسمى حلف بغداد ثم تلاها مبدأ نيكسون (غوام) عام 1969م ثم كامب ديفيد عام 1979م فحرب السنين الثماني العجاف بين العراق وإيران، وغزو لبنان بمباركة وصمت عربي مطبق عام 1982م، واحتلال الكويت فالعراق وصولًا إلى الربيع البائس وبيع الأوطان في المزادات السياسية. جميع تلك النكبات على الأمة هي حلقات في سلسلة كتاب واحد لمن يقرأ التاريخ ويفهم المعنى والسياق، من الكتاب الأبيض البريطاني بتقسيم فلسطين عام 1939م، ووعد بلفور ومعاهدة سايكس وبيكو قبله، وتستمر المؤامرة ويتدفق العملاء والمتطوعون في كل زمان ومكان رافعين شعار الإسلام هو الحل والله أكبر، وينتصر الشرفاء على الأرض بإرادتهم وعقيدتهم بلا ضجيج فضائي ولا فضائح تحالفات ويستمر النزال ما بقي حق وقضية. فكل ما يستطيع التحالف الأمريكي التطبيعي القيام به في المنطقة اليوم هو السعي للتقليل من خسائره وليس تحقيق الانتصارات فخيارهم اليوم هو إمّا القبول بهزيمة مشرفة أو المواجهة فالانتحار وإسدال الستار.
قبل اللقاء: فظيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري    
وهل تدرين يا صنعاء من المستعمر السري
غزاة لا أشاهدهم وسيف الغزو في صدري    
فقد يأتون تبغا في سجائر لونها يغري
وفي صدقات وحشي يؤنسن وجهه الصخري    
وفي أهداب أنثى في مناديل الهوى القهري
وفي سروال أستاذ وتحت عمامة المقري    
وفي أقراص منع الحمل وفـي أنبوبة الحبر
وفي حرية الغثيان وفي عبثية العمر    
وفي عَود احتلال الأمس في تشكيله العصر
وفي قنينة الويسكي وفي قارورة العطر
ويستخفون في جلدي وينسلون مـن شعري
وفوق وجوههم وجهي وتحت خيولهم ظهري
غزاة اليوم كالطاعـون يخفى وهو يستشري
(الشاعر العربي اليمني/ عبدالله البردوني)
وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com