ضد الشعبوية..!

 

حاتم الطائي

بمجرَّد أنْ أدَارَ الناخبون الهولنديون ظهورَهم لصناديق الاقتراع، بعد تصويتهم في انتخابات برلمانيَّة اكتسبتْ أهمية خاصَّة وحساسية بالغة -وفق سياقها الزماني والمكاني- أُعْلِنَ من قلب العاصمة أمسترام ما يُمكن تسميته بـ"الوَقْت المُستَقْطَع" أمام تيار الشعبوية الجارف، الذي بَاتَ مُلازمًا لكلِّ عملية اقتراع؛ منذ صَدْمَة "البريكست"، مُرورا بانتخاب ترامب، ثم انتخابات النمسا وإيطاليا، والتي حقَّق في جميعها هذا التيار اليميني المحمَّل بالمدلولات المتناقضة نجاحات مُفاجِئة؛ ظاهرها فيه الديمقراطية، ومن قِبَلِها الوَيْلَات التي أؤكد أننا إلى الآن لم نُبصر بَعْد وَقْعَها الشديد.

فهذا المصطلح الجديد/القديم، يُكنَّى به عن تيار سياسي يقوم على "إثارة" الطبقات الشعبية؛ فيتبنَّى خطاباً يُدغدغ المشاعر؛ وينتهج التبسيط لقضايا مُعقَّدة، فيتلاعب بالعواطف من أجل الغايات، ويَعْتَبر ممثلوه -الذين يحظون دائمًا بالكاريزما- أنفسَهم هم الصوت الوطني الوحيد، وممثلي المواطنين العاديين، أو من يُطلقون عليهم "الطبقة المنسيَّة"، إنهم يبحثون عن دعم شعبي مُباشر، فيبدأون "معركة التحدي" أمام المؤسسات التقليدية الديمقراطية في بلدانهم. ولضَعْف الوَعْي الشعبي، تكاثرتْ أحزاب هذا التيار وحركاته، فتأجَّجت مخاوف المتمسِّكين بالديمقراطية ودولة القانون، الرافضين لكل سياسة مبنية على التمييز، باعتبارها زلزالا سياسيا قادما يُهدِّد القاعدة السياسية المؤسِّسة للنظم الغربية المستقرَّة (نوعاً ما)، وانزلاقا إلى مساوئ الكراهية والتحيُّز؛ بعدما تحمَّلت مجموعة من "الغوغائيين" مسؤولية رسم السياسات ومُعالجة المشكلات بتوظيف مشاعر الغضب عند العامة، في أوقات الأزمات والاضطرابات.

وأذكر هنا أنَّه وقبل حوالي العام تقريبًا، وأيَّام كان مُرشحًا للرئاسة، كَتَب دونالد ترامب مقالًا في "وول ستريت جورنال"؛ قال فيه إنَّ "الترياق الوحيد لعقود من الحكم المدمِّر من قبل حفنة صغيرة من النخب هو فرض الإرادة الشعبية في كل قضية رئيسية تؤثر على هذا البلد. إنَّ الناس على حَق، والنخبة الحاكمة على خطأ".. إنَّ ترامب لم يُدرك أنَّه لا يُؤصِّل بذلك لمبدأ سياسي قويم، بقدر ما يَرْسِم خارطة للفوضوية القاتلة في التفكير، والتي أنتجتْ لنا حالات سياسية باثولوجية من طراز البلانكية، والنازية والترامبية، وأسَّست لميتافيزيقا سياسية جديدة، بل للاهوت سياسي جديد؛ هو "لاهوت الشعب"، في مُواجهة أي رأي أو خطاب أو موقف ديمقراطي، يقف على الجهة الموازية من هذه الفئة ذات الأفق الضيق.

إنَّ كلمات ترامب ليست المثال الوحيد، وإن كانتْ الأبرز من شخصية لم يكن يُتوقَّع على الإطلاق أن تجلس على كرسي الحكم في أكبر بلد يدَّعي أنه رأس الديمقراطية وحاميها؛ فمع أنَّ هذا التيار الشعبوي كنعرة سياسية ارتبط في نشأته بأوساط التيارات اليسارية، إلا أنَّه غزَا مُؤخرًا اليمين واليسار الليبرالي، الذي يُشكل أكبر كتلة سياسية في أوروبا.. فأوروبا كقارة ذات حُكم تكنوقراطي، كانت في الأصل مَنْشَأ فكرة الأحزاب التي تتبنى "الديمقراطية الاجتماعية" وتحارب لأجلها، إلا أنه ومع الوقت، تجرَّدت الأحزاب اليمينية الوسطية التقليدية من هُوياتها التاريخية، مع تبني قادة مثل ميركل وكاميرون نهجا أكثر وسطية وواقعية فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والثقافية.. وهذا التقاربُ خَلَق أرضاً خصبة لـ"الشعبوية"، تعزَّزت على يد نايجل فاراج الذي قاد "معركة الخروج البريطاني" من الاتحاد الأوروبي، لاعبًا على وتر الإثارة، بشعارات برَّاقة لم تخلُ من مجافاة الحقائق تارة، والكذب الصريح تارات أخرى؛ فكانت النتيجة اليوم "فاتورة بـ65 مليار يورو" مُطالبة بها بريطانيا لإتمام عملية الخروج، كضربة جديدة في مقتل للاقتصاد الإنجليزي.

إنَّ شعبوية كهذه بما تَحْمِله من دَلَالات تنفيرية مُرْعِبة، تمهِّد مزيدًا من الطُّرق أمام تنامي غُوْل التطرُّف والغلو والكراهية، وتغذِّي نَبْرَة التشدُّد والتعصُّب والعنصريَّة.. ويبقى فقط لَفْظ "المسْكِيْن" وَصْفًا لكلِّ شعبٍ تفشَّى بين ظهرانيه هذا المرض العُضال؛ إذ يتنافس الجميعُ على خَطْب وُدِّه، ويتزاحمون على النطق باسمه، في حين أنْ لا أحد غيره غارقا في بُؤسه وفقره، فيما المتأبِّطون قضيته من "الشعبويين" لا يتحرَّجون في الإعراض عنه بمجرد أن تنفتح أمامهم أبواب الترقي في مَعَارج المصالح.

ويَبْقَى القول بأنَّنا لسنا بعيديْن هنا في عُمان والعالم العربي عن التأثُّر بهذا التيار الشعبوي الذي يَجِد مَنصَّة مفتوحة له في وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث تَتَلاقى قوَّة تأثير تلك المنصات الإلكترونية مع غايات أنصار "الشعبوية"، من خلال أحد أمريْن؛ فمن ناحية: كلاهما يستند للعمل من خلال فضاء مفتوح؛ حيث لا قيود، مع إمكانية الوصول المباشر وبصورة مؤثرة للجماهير دون أي وسيط، وممارسة الدور البديل للمؤسسات. ومن ناحية أخرى: كلاهما مسكُون بلغة الحشد والتأثير في العواطف وترسيخ التصوُّرات السلبية والمواقف المثيرة للجدل؛ مما يُوجِد بيئة خصبة لنبتة خبيثة تستهدف تغذية الفوضى وعدم الاستقرار، وتعميق مناخ التعصُّب والشك وعدم الثقة؛ فنجد الكثيرَ من أنصار هذا التيار يروِّجون للفكر السلبي، وبالمقابل يصفِّق لرؤاهم الكثيرون، ممَّن يتَّبعون القطيع دون أن يُكلِّفوا أنفسهم عناء الاستقصاء والبحث عن صحة المعلومة ومصداقيتها.. لذا وَجَب -وإعلاءً للمصالح العامة- استعادة دور المؤسسات وتعزيزه لملء الفراغ الذي احتلته في تراجعها وسائل التواصل الاجتماعي، وهيمنتها بتأثيرها السلبي في مجتمعاتنا العربية لإحداث مزيدٍ من التفكك والفرقة. وأقول بأنه عَسَى ولعلَّ أن تكون فترة ما بعد الانتصار الهولندي في انتخابات برلمان 2017 الأخيرة، فِعْلَا بمثابة "وقت مُستقطع" يُعيد فيه الجميع حساباته، إنْ كان أصلا يُريد الإصلاح!!