الغرامات وسيلة لتحصيل "مليارات مجانية" أم آلية لتحجيم دور برلين سياسيا من بوابة الاقتصاد؟

الاقتصاد الألماني في مرمى نيران "الكاوبوي" الأمريكي

...
...
...
...
...
...
  • الأمريكان قدموا ضمن "خطة مارشال" مليارا ونصف المليار دولار مساعدات لألمانيا .. ويستعيدونها الآن أضعافا مضاعفة
  • وزير المالية الأمريكي في 1945 دعا إلى تحويل ألمانيا إلى بلد زراعي لـ"تقزيم اقتصادها"
  • أمريكا حوّلت ألمانيا بعد الحرب العالمية إلى سوق استهلاكي لمُنتجاتها.. وحين انقلب الوضع تغيَّرت معه "قواعد اللعبة"
  • محللون يحذرون من تطور أزمة "فولكس فاجن" لتصبح أكبر تهديد لأكبر اقتصاد في أوروبا
  • الغرامة الأمريكية على الشركة الألمانية 18 مليار دولار.. أي ما يزيد على أرباحها التشغيلية خلال عام كامل
  • شركات السيارات الألمانية تُحذر أمريكا من تأثر اقتصادها في حال فرض المزيد من القيود التجارية
  • "دويتشه بنك" يضطر لتسريح الآلاف من موظفيه تأثرا بغرامات أمريكية تتجاوز 14 مليار دولار

الرؤية – هيثم الغيتاوي - الوكالات

72 عاماً منذ انتهاء المواجهة العسكرية بين الأمريكان وألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، لم تكن كافية – على ما يبدو – لأن ينسى أبناء العم سام التوابع الاقتصادية لهذه المرحلة، في ظل الصعود الدراماتيكي للاقتصاد الألماني مؤخرا، ذلك الاقتصاد الذي خططت أمريكا يوما ما لتحصره في "حظيرة" البلاد الزراعية، لكن الماكينات الألمانية أبت إلا أن تكون مصدرًا للصداع في رأس رجال الاقتصاد الأمريكي، وفي الوقت نفسه هدفا للابتزاز تحت شعارات "سيادة القانون وحماية المستهلك".

كيف لا؟ وقد تابعنا جميعاً أنباء فرض وكالة حماية البيئة الأمريكية غرامة بقيمة تزيد على 18 مليار دولار على شركة "فولكس فاجن"، واحدة من أعمدة الاقتصاد الألماني، وهو ما يفوق كل أرباحها التشغيلية للعام الماضي. وهو ما يتبعه خسائر إضافية متوقعة تزيد على 6 مليارات دولار كلفة التعويضات وسحب 500 ألف سيارة من الولايات المتحدة، حتى قيل إن تراجع مبيعات فولكس فاجن في أميركا الشمالية لن يكون له فقط تأثير على الشركة ولكن سيمتد ليشمل الاقتصاد الألماني كله.

وكان مصرف "دويتشه بنك"، أكبر مجموعة مصرفية في ألمانيا، هو الآخر في مرمى "الابتزاز المالي والقانوني" إن جاز التعبير، بفرض وزارة العدل الأمريكية غرامة تتجاوز 14 مليار دولار بدعوى بيع البنك أوراق مالية مدعومة بالرهن العقاري عن طريق التضليل، وهو الأمر الذي أدى إلى هبوط أسهمه إلى مستويات قياسية، وأثار قلق عملاء البنك، في ظل الإعلان عن خطط لتسريح الآلاف من موظفي البنك.

وغيرها وقائع مماثلة تدفع للتساؤل حول تحالف الساسة و"الكبار" في أمريكا لاستهداف ألمانيا في اقتصادها بكل الوسائل المتاحة، بدعاوى تبدو قانونية "محبوكة"، ربما تخفي الكثير من الدوافع السياسية بالدرجة الأولى لمحاصرة الاقتصاد الألماني كوسيلة لتحجيم الدور المتنامي لألمانيا في قيادة الاتحاد الأوروبي، فضلا عن أهداف اقتصادية أخرى، ليس أقلها السعي إلى توفير سيولة (مجانية) للاقتصاد الأمريكي على حساب الألمان في زمن يشتكى فيه الاقتصاد الأمريكي من ركود خانق.

من دراما التاريخ

تغيرت ألمانيا بعد حربين كبيرتين، لكن أمريكا لم تتغير. ولم ينس الأمريكيون أنهم يوما ما كانوا يملكون مصير الألمان بأيديهم، خصوصا المناطق التي كانت واقعة تحت سيطرة الأمريكان والإنجليز والفرنسيين بموجب اتفاقية مؤتمر يالتا 1945، والتي أصبحت فيما بعد "جمهورية ألمانيا الغربية".

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، كان الهدف الذي شغل بال كافة الأطراف التي تورطت في الحرب هو ضمان تحوّل الألمان إلى شعب مُسالم لا يخطط لحرب انتقامية جديدة. فاتجهت بعض الآراء إلى ما يمكن تسميته "تقزيم الاقتصاد الألماني"، باعتباره المحرك والداعم الأساسي لتوجهات القادة الألمان الجدد في المستقبل. ووصل الشطط بوزير المالية الأمريكي وقتها هنري مورجينتاو إلى اقتراح تحويل ألمانيا إلى دولة زراعية فقط، ليضمن العالم أنها غير قادرة على تطوير أي صناعة، بما في ذلك صناعة السلاح بطبيعة الحال، وبذلك كان الأمريكان – ومن خلفهم العالم كله تقريبا -  يؤمنون أن ضعف الاقتصاد الألماني في كفة، ومصلحة الجميع في الكفة الأخرى!.

لكن على الجانب الآخر، كان التطبيق من نصيب الاقتراح الأكثر عملية وهو "خطة مارشال للتعافي"، وبموجبها تدفقت المساعدات الأمريكية، ليست على ألمانيا فقط، وإنما على غرب أوروبا كلها، حتى وصلت المساعدات إلى أكثر من 13 مليار دولار. وكان الهدف اقتصادي وسياسي في الوقت نفسه، ويقوم على تحويل الشعب الألماني من عدو إلى صديق من خلال التنمية الاقتصادية.

وكانت الفائدة عائدة على الأمريكان اقتصاديا إلى جانب السياسة طبعا. فقد خلقت سوقا استهلاكية للسلع الأمريكية، وبدأت الأموال تتدفق إلى أمريكا من جديد، وهكذا بدأ الاقتصاد الأوروبي يتعلق بشكل أساسي بالسوق الأمريكي، مما أتاح لأمريكا الاستمرار في النمو والتطور.

قدمت أمريكا مساعدات إلى ألمانيا الغربية بقيمة مليار ونصف المليار دولار خلال فترة ما بعد الحرب، ويسعى رجالها حاليا – على ما يبدو – إلى استعادة المليار ونصف المليار دولار.. لكن بعد ضرب القيمة الأصلية للمبلغ في 1000!

يحدث ذلك مؤخرا بأكثر من وسيلة.. نذكر منها واقعتين على سبيل المثال لا الحصر.

أرباح عام كامل في جيب أمريكا

هزت قضية شركة فولكس فاجن قطاع الأعمال والمؤسسة السياسية في ألمانيا، وحذّرت محللون من أن الأزمة في عملاق صناعة السيارات قد تتطور لتصبح أكبر تهديد لأكبر اقتصاد في أوروبا. ودفع مارتن فينتركورن الرئيس التنفيذي لفولكس فاجن ثمن فضيحة الغش في اختبارات الانبعاثات لسيارات الشركة التي تعمل بالديزل في الولايات المتحدة، وأعلن استقالته.

وقالت وكالة حماية البيئة الأمريكية إن الشركة الألمانية قد تواجه غرامات تصل قيمتها إلى 18 مليار دولار، وهو ما يفوق كل أرباحها التشغيلية للعام الماضي. ورغم أن مثل هذه الغرامات أقل من السيولة النقدية الحالية لدى فولكس فاجن والتي تبلغ 21 مليار يورو (24 مليار دولار)، فإن الفضيحة أثارت مخاوف من تخفيضات كبيرة في الوظائف. ويعكف خبراء اقتصاديون على تقييم تأثير الفضيحة على الاقتصاد الألماني.

وقال كارستن برزيسكي كبير الخبراء الاقتصاديين ببنك 'آي إن جي' إن فولكس فاجن أصبحت عامل خطر لتراجع الاقتصاد الألماني أكبر من أزمة الديون اليونانية، وأشار إلى أن تراجع مبيعات فولكس فاجن في أميركا الشمالية في الأشهر المقبلة لن يكون له فقط تأثير على الشركة ولكن سيمتد ليشمل الاقتصاد الألماني كله.

وأكد مارتن غورنيغ الخبير بشؤون صناعة السيارات لدى مركز 'دي آي دبليو' ومقره برلين، أن تراجع مبيعات السيارات قد يلحق أيضا ضررا بالموردين ومعهم الاقتصاد برمته.

غير أن مدير الاتحاد أندريه شوارتز اعترف بوجود قدر من القلق بين الشركات الألمانية من أن فضيحة فولكس فاجن قد يكون لها 'تأثير الدومينو' على أنشطتها، وقد تؤدي إلى تقويض شعار 'صنع في ألمانيا'.

وفولكس فاجن هي أكبر شركة لصناعة السيارات في ألمانيا ومن أكبر أرباب العمل في البلاد، حيث توظف 270 ألفا. وباعت الشركة نحو ستمئة ألف سيارة في أميركا العام الماضي، أي حوالي 6% من إجمالي مبيعاتها العالمية البالغة 9.5 ملايين سيارة. وفي 2014 بلغ عدد العاملين في قطاع السيارات الألماني 775 ألفا، أو حوالي 2% من إجمالي قوة العمل.

وتعد السيارات ومكوناتها أكثر الصادرات الألمانية نجاحا. وباع القطاع بضائع قيمتها أكثر من مئتي مليار يورو (225 مليار دولار) إلى زبائن في الخارج خلال 2014، وهو ما شكل نحو خمس إجمالي الصادرات الألمانية. وهناك مخاوف من تكرار أزمة "فولكس فاجن" مع شركات دايملر ومرسيدس وبى إم دبليو، في ظل تصاعد حملات الإضرار بشعار "صنع في ألمانيا" لصالح تويوتا وجنرال موتورز.

أمريكا تطلق النار على قدميها!

وفي مطلع العام الجاري، حذرت شركات صناعة السيارات الألمانية من أن الولايات المتحدة ستُعاني من ضرر اقتصادي كبير جراء فرض قيود تجارية بعدما مارس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مزيدا من الضغوط على شركات صناعة السيارات الأمريكية لإنتاج مزيد من السيارات داخل الولايات المتحدة. حيث كان ترامب قد وقع أمرا بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاق الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي وتعهد بإعادة النظر في اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) الذي تضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك.

وكان الرئيس الجمهوري تعهد أثناء حملته الانتخابية بزيادة الوظائف للأمريكيين في قطاع الصناعة وقد اجتمع مع كبار المسؤولين التنفيذيين في جنرال موتورز وفورد وفيات كرايسلر.

وقال ماتياس فيسمان رئيس اتحاد صناعة السيارات الألماني "إذا فرضت قيود على منطقة النافتا فإنها ستكون بداية ضربة كبيرة للاقتصاد الأمريكي" مضيفاً أن التجارة العالمية ستتضرر أيضًا. وتابع أن شركات صناعة السيارات الألمانية ومن بينها فولكس فاجن ودايملر زادت عدد السيارات الصغيرة التي تنتجها في الولايات المتحدة لسبعة أمثاله إلى 850 ألف شاحنة في السبع سنوات الأخيرة حيث يجري تصدير أكثر من نصفها. وقال فيسمان "إذا فرضت رسوم أو ضرائب على الواردات فإن الولايات المتحدة ستكون كمن يطلق النار على قدميه في الأجل الطويل."

وحذر ترامب في وقت سابق هذا الشهر من أن الولايات المتحدة ستفرض ضريبة استيراد بواقع 35 بالمئة على السيارات التي تخطط بي.ام.دبليو الألمانية إنتاجها بمصنع جديد في المكسيك وتصديرها إلى السوق الأمريكية. واستثمرت شركات صناعة السيارات الألمانية الثلاثة الكبيرة بكثافة في المكسيك حيث تنخفض تكلفة الإنتاج عن الولايات المتحدة بهدف تصدير سيارات أصغر حجماً إلى ثاني أكبر سوق للسيارات في العالم.

لكن ذلك لم يمنع الشركات الألمانية العاملة في السوق الأمريكية من التفاؤل بالمستقبل، رغم ضعف أداء الاقتصاد الأمريكي الذي يواجه أسوأ أزمة يتعرض لها منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين.

تأثير "الدومينو" يهدد اقتصاد ألمانيا


ويبدو أن الأثر المالى السلبي لفضيحة فولكس فاجن سوف يكون مضاعفا في أوروبا ولن تتوقف خسائر فولكس فاجن عند تكلفة سحب 500 ألف سيارة من الولايات المتحدة، وهى التكلفة التي تقدر بـ6.5 مليار يورو، بل يمتد الأثر المالي على الشركة إلى غرامة مالية يحق لوكالة حماية البيئة فرضها على الشركة.

ومن الممكن أن يتعرض عملاق السيارات الألماني للمزيد من الخسائر حال لجوء العملاء وحاملي أسهم الشركة إلى القضاء للحصول على تعويضات، علاوة على تكهنات تشير إلى إجراء وزارة العدل تحقيقا جنائيا في تلك الأزمة .

كما يبدو أن الأزمة التي تعيشها "فولكس فاجن" يبدو أنها لم تقتصر فقط على الولايات المتحدة الأمريكية، حيث امتدت إلى دول أخرى مثل بريطانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وكوريا الجنوبية، وكندا، وبالطبع ألمانيا، وهي الدول التي فتحت بالفعل تحقيقا في تلك المسألة، وتقول أستراليا إنها تراقب الموقف الحالي قبل اتخاذ أي إجراء ويتساءل السياسيون، والمسؤولون، وجماعات الدفاع عن البيئة من جميع أنحاء العالم عن مدى شرعية اختبارات الانبعاثات التى تتعرض لها سيارات فولكس فاجن.. وقال مايكل سابين، وزير المالية الفرنسي فى بيان، إن هناك ضرورة لإجراء تحقيق فى جميع أنحاء أوروبا لطمأنة العملاء .

محرك السيارة محرك للاقتصاد
 

وليس من المبالغة في شيء أن يُشير المحللون إلى مدى تأثير فولكس فاجن على الاقتصاد الألماني.. فقد سبق وكانت السيارة «الفولكس فاجن» واحدة من العوامل المساعدة في دعم صعود الاقتصاد الألماني بعد الخراب الذي خلفته الحرب العالمية الأولى. حيث كان معروفًا عن هتلر حبه وولعه بالسيارات. وكانت السيارة جزءًا من خطة إعادة بناء الاقتصاد الألماني بعد الحرب الأولى والأزمة الاقتصادية العالمية في العشرينيات من القرن الماضي. وكانت صناعة السيارة تعني ببساطة إيجاد فرص عمل، وتوحيد الشعب الألماني على حب مُنتج بعينه، لذلك كان هتلر هو أوّل من بدأ مشروع "الطرق السيارة" في ألمانيا. وكانت النتيجة أنه حتى عام 1939م تم إصلاح 17000 كيلومتر وبناء ورصف 3000 كيلومتر، إضافة إلى 3000 كيلومتر أخرى كطرق على الجسور. وظهرت في ألمانيا معارض السيارات. وأسس العمال ورش إصلاح خاصة بهم، وكان من نتيجة ذلك أن قفز إنتاج السيارة الخاصة إلى الضعف من 1929م إلى عام 1935م، بينما زاد عدد الشاحنات إلى الثلث فقط في نفس الفترة.

وقاد الألمان والأمريكان وغيرهم «الفولكس فاجن» بعد هزيمة هتلر ونهاية الحرب، وتناسوا أنَّ من صممها هم مهندسو هتلر، وساروا بها على الشوارع التي رصفها هتلر، وسافروا بها إلى الدول التي احتلها هتلر، وأصبح هاينرش نوردهوف رئيسًا لشركة شتاير للسيارات بعد أن كان رئيسًا لأحد مصانع السلاح. وعين المسؤول عن الإمداد والتموين في عهد هتلر رئيسًا لمجلس إدارة «فولكس فاجن»، وكان ذلك أمرًا طبيعيًا، فما كان يمكن للألمان ولا لأي شعب آخر الانفصال الكامل عن أمسهم القريب. وانطلقت صناعة السيارات الألمانية وسط خوف أوروبي من اجتياحها للسوق الأوروبية.

"دويتشه بنك" في مرمى الأمريكان

وفي ألمانيا أيضاً.. تعرض مصرف "دويتشه بنك"، أكبر مجموعة مصرفية في ألمانيا لضغوط بسبب غرامة تتجاوز 14 مليار دولار تخطط وزارة العدل الأمريكية لفرضها عليه على خلفية بيعه أوراق مالية مدعومة بالرهن العقاري عن طريق التضليل، وهو الأمر الذي أدى إلى هبوط أسهمه إلى مستويات قياسية الأسبوع الماضي، وأثار قلق عملاء البنك.

وأعلن البنك الألماني عن خطة لتسريح 1000 موظف من العاملين فيه ضمن إستراتيجية 2020 العالمية لتحسين نوعية موظفي "دويتشه بنك" وتعزيز القدرة التنافسية، وهي تستهدف تقليص عدد القوى العاملة في المصرف في مختلف أنحاء العالم بمقدار 9 آلاف موظف. إلا أن عددًا من الشركات الألمانية الكبرى أبدت استعدادها لضخ رؤوس أموال في "دويتشه بنك" إذا اقتضت الضرورة دعم المصرف. كما وقد تشتري هذه الشركات أسهم المصرف الألماني لتعزيز احتياطياته.

تعليق عبر الفيس بوك